من حكايات العدوان الإسرائيلي على غزة - 5

من حكايات العدوان الإسرائيلي على غزة -  5
أحلام الطفل "محمود" تبدلت من مواصلة الدراسة إلى إجراء عملية جراحية

"محمود" بانتظار من يضمد جروحه الغائرة
غزة – محسن الإفرنجي:
آمال عريضة وأحلام بلا حدود وابتسامات صافية وإقبال على الحياة بكل حب وبراءة..كلها توقفت فجأة في صباح يوم دام أخذ معه كل "معاني الحياة الجميلة والواعدة" لشاب صغير في مقتبل العمر تحول بين عشية وضحاها إلى "كفيف".
الطفل محمود مطر تغيرت كل تفاصيل حياته منذ الساعة التاسعة والنصف صباحاً من يوم السابع من يناير 2009، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة حينما استهدفت قوات الاحتلال مسجد التقوى في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة والذي يبعد المسجد نحو 150 متراً عن منزله.
كان في الرابعة عشر من عمره حينما أصيب جراء الغارة الجوية ففقد وعيه بسبب الانفجار وأصيب بحروق وجروح أفقدته بصره كلياً.
"كم أود أن يأخذني أحد ما إلى الصحراء ويتركني هناك فأنا لا أريد أن أرى الناس"...هكذا تبدلت أحوال محمود بعد ثلاثة أعوام من العدوان على غزة الذي راح ضحيته أكثر من (400) طفل وأصيب المئات منهم بجروح وحروق مختلفة جراء الغارات الجوية والبرية والبحرية وخاصة إثر قنابل الفوسفور الأبيض.
الضحايا يستذكرون..!
ولا يزال ضحايا العدوان على غزة يستذكرون آلامه وعذاباته التي خلفها القصف على أجسادهم، وحول المئات منهم إلى معاقين بسبب خطورة إصاباتهم.
وكان محمود يحاول الابتعاد عن المنطقة التي تعرضت للقصف، عندما تعرضت نفس المنطقة لهجومين آخرين أسفرا عن مقتل طفلين في الخامسة عشر من العمر، من بينهما صديق محمود في المدرسة.
يتحدث بمرارة وأسى عن التغيرات التي طرأت على حياته اليومية منذ الهجوم، ويقول لباحثي المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان الذين يرصدون قصص ضحايا العدوان: " "كنت أذهب إلى البحر بمفردي، أما الآن فأحتاج إلى شخص آخر يرافقني... لم أعد أخرج سوى مرة واحدة كل شهرين أو ثلاثة، أما بقية الأيام فأقضيها داخل المنزل".
أصبح محمود يخشى الخروج والتواجد بين الناس بسبب تعرضه في كثير الأحيان إلى "التعليقات التي أسمعها من الأطفال إذا اضطررت للخروج، لذا أغطي وجهي بملابسي وأغطي عيني بنظارات شمسية ".
نظرته إلى الحياة أصبحت "قاتمة" كما يصفها بسبب عزلته، والتغيرات التي طرأت على حياته وانعكست على سلوكه وتصرفاته مع الآخرين.
تغيرات "نفسجسدية"..!
ويوضح باحثو المركز الفلسطيني أن إصابة محمود أثرت على أوضاعه النفسية والجسدية لدرجة أنه يبقي وجهه مطأطأً إلى صدره، ويتوقف عن التنفس للحظات بسبب مشاكل في التنفس يعاني منها بسبب العظام التي زرعت في أنفه جراء الانفجار.
لكنه يبرر ما أصابه من تغيرات بقوله "إن التغيير الذي ترونه خارج عن إرادتي"، خاصة بعد أن أصبح محمود متوتراً وحاد المزاج "لقد أصبحت عصبياً جداً منذ الهجوم. إذا حاول أحد أن يمازحني، أحاول أن أرميه بأي شيء في يدي".
لقد تسبب غضبه بمشاكل له في المدرسة ما أدى إلى وقفه عن الدراسة لمدة عام كامل، بعد أن "أصبحت هناك مشاكل بيني وبين المدرسين وكذلك بيني وبين الطلاب الآخرين بسبب ردود فعلي المتسرعة".
وما يحدث مع محمود يفسره د. دكتور فضل أبو هين ،مدير مركز الأزمات بالقول: "الآثار النفسية للعدوان ما تزال موجودة ومتفاعلة في كل بيت ولدى كل طفل"، لافتاً إلى أن آثارها الكامنة ستظهر بعد عدة سنوات في شكل ردود أفعال نفسية عنيفة.
وكان اختصاصيون نفسانيون أكدوا في دراسات منفصلة أجروها أن الآثار النفسية والاجتماعية للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تتفاقم يوماً بعد آخر "فمظاهر هذه التبعات النفسية والاجتماعية التي أثرت بشكل سلبي على سلوكهم اليومي وتحصيلهم الدراسي".
ولذا كان على محمود أن يتأقلم مع التحديات التي تواجهه، بما في ذلك التدرب على استخدام طريقة "برايل" في القراءة والكتابة، وهو ما استغرق منه عاماً كاملاً من الدراسة المتواصلة، غير أن دراسته تأثرت فهو الآن في الصف العاشر بعد أن كان في الصف التاسع عندما وقع الهجوم قبل ثلاثة أعوام.
ليس هذا فحسب؛ فحالة القلق التي يعيشها جعلت حياته الأسرية مع والديه وأشقائه وزملائه في المدرسة "معقدة" رغم أنه معروف قبل الإصابة بهدوئه وطيبته وحب الجميع له.
ويقول هاني مطر، والد محمود "قد يتسبب في المشاكل ويصبح عنيفاً معي، ولكنني أتفهم ذلك وأحاول أن أكون صبوراً معه،" وتشاركه الرأي والدته رندة مطر، 38 عاماً، فتقول: "في بعض الأحيان يمكن أن يدمر كل شيء ويصب غضبه على المنزل أو على أخيه الصغير".
تبدل الأمنيات..!
لكن لا يفقد محمود الأمل في مستقبل أفضل رغم أنه فقد بصره، ويقول: "قبل الحادث، كنت مغرماً بالألعاب الرياضية وكنت أتمرن كثيراً. لطالما تمنيت أن أصبح مدرساً للرياضة أو أن أدير نادياً رياضياً، لكن كل هذه الأمنيات تحطمت، وأصبح أملي الوحيد الآن هو أن أترك المدرسة وأن أركز على الدين وحفظ القرآن."
الأمل الأكبر الذي لا يزال يحدوه؛ أن يخضع لعملية جراحية من أجل حل مشاكل التنفس لديه، وأن تجرى له عملية "تجميلية"، كانت قد وعدته بها منظمات خيرية عديدة غير أنه يعرب عن أسفه لأنها "لم تفِ بوعودها وإذا تمكنت من إجراء الجراحة، سأشعر براحة أكبر عند تواجدي بين الناس."
وكغيره من الشباب، يحلم محمود بالزواج، إلا أن والديه يقولان "المنزل لا يمكنه استيعاب أسرة جديدة".
وعلى الصعيد القضائي وفي ظل تقدم المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بشكوى جنائية إلى السلطات الإسرائيلية بالنيابة عن عائلة مطر؛ إلا أن محمود يستبعد إمكانية تحقيق العدالة أمام المحاكم الإسرائيلية و"لا أتوقع أن تنجح قضيتي؛ فالإسرائيليون كاذبون فهم يستهدفون الأطفال ولا يأبهون بأحد".
وكان المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان تقدم بـ 490 شكوى جنائية إلى السلطات الإسرائيلية بالنيابة عن 1046 من ضحايا عملية الرصاص المصبوب، إلا أنه حتى الآن لم يتلق سوى ردين موضوعيين، حيث تم "تجاهل الغالبية العظمى من الشكاوى المقدمة".
ويعقب المركز على ذلك بقوله "إن كان الاحتلال قد علمنا شيئاً فهو أنه طالما منحت إسرائيل الحصانة، فإنها ستستمر في انتهاك القانون الدولي وستتواصل معاناة المدنيين الفلسطينيين بسبب العواقب المروعة".
أحلام محمود البريئة الطامحة تبدلت مثل غيره من آلاف المصابين والمعاقين، فبعد أن كانت تركز على الدراسة والتخرج وبناء أسرة وغيرها أصبحت إجراء عملية وزراعة عضو عوضا عن المبتور وتجميل الجروح الغائرة.


 


تعليقات