غزة – محسن الإفرنجي:
يبتسمون..يتبادلون الضحكات..يلعبون ..يتسامرون....يحاولون الخروج من معاناتهم غير أنه يستحيل عليهم نسيان مشاهد دامية محفورة في ذاكرتهم يوم قتلت قوات الاحتلال آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم الصغار أمام أعينهم...فهل ينسى الأطفال جرائم الاحتلال.
كانت تلك مشاهد من أمسية هادئة لأطفال ناجين من العدوان على غزة جمعهم نادي الصحفي الصغير ضمن برامجه الرامية إلى تخفيف الآثار النفسية غير أن قسوة المشاهد لا زالت ماثلة وهم يتحدثون عن الجرائم التي ارتكبت بحق عائلاتهم ، ويصرخون: بأي ذنب يقتلون؟!من يحاكم المجرمين؟!
ومر يوم الطفل الفلسطيني الذي يصادف الخامس من نيسان الجاري مثقل بالهموم و الذكريات على العديد من أطفال غزة خاصة الناجين من العدوان والذين كتبت لهم الحياة من بين أنياب الموت ليكونوا شهداء على جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
بأي ذنب أفقد بصري ؟!
ما أصعب أن يفقد الإنسان بصره و نور الحياة لعيش في دوامة سوداء ، فكيف به إذا كان طفلا؟
هل تذكرونه...هل شاهدتم وجهه يسيح جلده وعيونه تغلق أبوابها ، إنه الطفل لؤي صبح (11 عاما) الذي أظلمت الدنيا في وجهه بعد أن احترقت عيونه واحتبست دموعه داخل مقلتيه بعد أن أحرق الفوسفور الأبيض وجهه وشوه معالمه..
يقول الطفل صبح : " كنت كالعادة في المنزل أنا وأهلي مختبئين من القصف والرصاصات العشوائية وجاءت لحظة الهدنة التي كان يعلنها الاحتلال فخرجت مع أحد أقاربي الذي فقدته أيضاً لنرى ما حدث في منطقتنا وإذا بصاروخ غادر يطلق علينا ولكنه كان شديد الاحتراق لقد كانت قذيفة فسفورية حارقة سقطت على الأرض لحظتها من شدة الانفجار في حفرة وبجواري قريبي نظرت إليه فوجدته جثةً هامدة أمامي وملئ بالدماء ثم نظرت إلى نفسي فوجدت نفسي غير قادر على التنفس أو حتى الرؤية وكان ذلك في البداية ولكني لم أكن أعرف أو أكتشف بأنني فقدت البصر وبعدها لم أع على نفسي إلا وأنا في المشفى ". .
ويكمل حديثه المجون بعينين مغلقتين "قسرا" :" ما الذنب الذي اقترفته حتى أفقد بصري , سوى أنني طفل فلسطيني " .
"اشتقت إلى اللعب مع أبي"
الطفلة نور المدهون ابنة الشهيد الدكتور إيهاب المدهون الذي قتلته قذيفة إسرائيلية أثناء محاولته إنقاذ بعض الجرحى خلال العدوان على غزة تروي حكاية استشهاد أبيها فتقول:" كان أبي الحضن الدافئ لنا , .. يدرسنا ويراجع معنا دروسنا، ويلعب ويرسم الابتسامة على وجوهنا , رغم انشغاله في عمله ".
و تستذكر الطفلة نور أبيها عندما كانت تقطع الكهرباء لساعات طويلة بسبب الحصار فكان يلعب ويمرح حتى ينسىها قسوة وألم انقطاع التيار الكهربائي .
ولعل ساعات الفرح معدودة في حياتها حيث اصطحبها أبيها إلي الملاهي قبل أيام من استشهاده , "وكانت رحلة ممتعة , ولكن لم أكن أعلم بأنها ستكون آخر رحلة أخرجها مع أبي ,وأن هذه اللحظات السعيدة لن تعود , وأن هده آخر لحظات لأبي معنا" .
وماذا عن استشهاده!! كان هناك عدد من الشهداء والجرحي في منطقة جبل الريس شمال قطاع غزة "وخرج أبي لإسعافهم فورا رغم التحليق المكثف للطائرات في السماء وأصوات الانفجارات القوية , وكان برفقته زميله في العمل المسعف ( محمد أبو حصيرة )، وعندما ذهب إلي منطقة الاستهداف أنقذ أبي اثنين من المصابين، ولكن لم يعثر علي المصاب الثالث..وكان أبي فرحانا و حزينا لأنه أنقذ حياة اثنين من المصابين، و لم يعثر على المصاب الثالث, وعندما التقي بأمي وهي من أصل أوكراني وحدثها بما جري معه , قالت له: " اذهب ممكن أن يكون المصاب الثالث ينزف ويحتاج إلى أحد ليسعفه " .
وتكمل بكل براطة جأش رغم الألم:" عاد أبي إلي منطقة الاستهداف وكانت فوقه الطائرات تحوم في السماء كالغربان , وعندما كان أبي يبحث عن المصاب الثالث .,استهدفتهم الطائرات بصاروخ مباشرة فاستشهد زميله أبو حصيرة وأصيب أبي بجراح خطيرة مكث على إثرها أيام عديدة في العناية المكثفة , حتى أصبح أبي في عداد الشهداء .
ولا زال لدى نور أمل في ملاحقة مجرمي الحرب إذ تقول: " من قتل أبي وحرمني حنانه سيحاكم عاجلاً أم آجل و سيأتي اليوم الذي نحاكم فيه قاتليه" .
" دفنوا عائـلتـي تحـت الركـام "
تحتار الكلمات التي تحاول أن تصف مأساة الطفلة الصابرة دلال أبوعيشة (13عاما) التي لا زالت تصطحب في ذاكرتها ذكريات معلقة على أوتار الحجارة المدمرة من منزلها بعد أن استهدفته الطائرات الحربية الإسرائيلية.
و تروي الطفلة دلال قصتها الأليمة بصوت خافت، وتقول " استشهدت ابنة عمتي وهي أعز صديقاتي فذهبت أنا وأسرتي لبيت العزاء، وبعد مرور فترة زمنية عادوا جميعا إلى المنزل وبقيت أنا بجانب عمتي لمواساتها باعتباري أعز صديقات ابنتها الشهيدة، ومر الوقت علينا ثم اتصلت بأبي ليأتي ويأخذني إلى المنزل بعد أن ينتهي من عمله ولكنه تأخر عن موعده أكثر من أربع ساعات، شعرت بقلق شديد عليه ثم بدأت بتكرار الاتصال عليه ولكن القلق الأكبر أن هاتفه المحمول كان مغلقا".
تنظر إلى السماء كأنها تترحم على روحه قبل أن تكمل حديثها :" ازدادت ضربات قلبي وأصبحت أرتجف من الخوف عليه، وبعد قليل وإذ بخالي يأتي ويقول لي لقد قصف بيتكم يا دلال ودفنت عائلتك بأكملها تحت الركام ،اعتقدت أنها مزحة وأنه يحاول إخافتي ولم أصدق ما قاله لي، ذهبت مهرولة إلى المنزل ولم أجد أمامي إلا أكواما من الحجار المحطمة ،والكارثة أن أهلي مدفونون تحتها".
"تلك الحجارة المحروقة كانت غرفتي، وذاك السرير المتفحم هو لي، كان يحتضن أحلامي، وهنا كنت العب، وهنا كنت أركض مع إخوتي...يا الله".
رحلت عائلة دلال بسرعة البرق قبل أن تودعها ولم تبق لها إلا ذكريات من أنتزعتها من تحت الأنقاض.
"أمي جثة هامدة أمامي..! "
ما أصعب الاستماع و التنقل بين تلك الروايات فكيف بمن عاصرتها وعاشت أحداثها المؤلمة لحظة بلحظة.
الطفلة ألماظة السموني كان شقيقها أول شهيد في عائلتها وتوالت القذائف باتجاههم وهم لا يحركون ساكنا في بيتهم الذي لم يعد "آمنا" فقد أصيبت وأختها سماح في قدمها، فضمتها أمها لحظتها إلى صدرها وكان في هذه اللحظة أعمامها يطمئنون عليهم قبل استشهاد البعض منهم، وكان الجميع يحاول إطفاء الحرائق في منزلهم، ثم جلسنا جميعاً في مكان واحد .
تكمل حديثها بصوت مرتجف "في تمام الساعة الثامنة تم إعدام عمي عطية أمام أعين أولاده وزوجته , بعد أن أعدم الاحتلال الكثير من أبناء عائلتنا وأقاربنا وانتقلوا إلينا مباشرة، حيث هدموا البيت من الجهة الشمالية والرصاص علينا من كل اتجاه، وانتشر جنود الاحتلال حول المنزل وقاموا بالطرق على الباب وكانوا يصرخون: " إن لم تفتحوا الباب فسوف تعدمون جميعكم "... ثم خرجنا، وكنت حافية القدمين، إلى بيت عمي ( طلال ) , فكان البيت مليئاً ، وأيضاً لاحقونا في بيت عمي وطرقوا الباب مرة أخرى ليقوموا بطردنا، ولكن الرجال قالوا لهم : " لن نخرج فهذا بيتنا وهذا وطننا " .
"واضطررنا للخروج وكان معنا أخي (محمد) قبل استشهاده فكان يمسك بيد جدتي العجوز ليساعدها في المشي، فقابلتنا قوة عسكرية قالت لنا : " اذهبوا إلى هذا البيت ", وهو منزل وائل السموني فرحب بنا الرجل وأدخلنا المنزل ليحمينا ولكن يبدو أن مشيئة الله كانت فوق كل شئ ... لا طعام لا ماء ولا كهرباء أيضاً، ولكن فقط كنا نخبز القليل من الخبز لنسد به جوع الصغار، والبرد كان قارسا جداً , دون أمطار إلا رصاصات وقذائف كانت هي أمطار غزة , ففي تلك اللحظات خرج أخي ( محمد ) بعد أن توضأ ليطمئن على من كان في المنطقة وباقي أقاربنا وإذا بقذيقة غادرة قطفت روحه مع روح زوجته أيضاً ".
ولكن هل توقفت رواية الحزن الدامية عند هذا الحد من الجرم؟
تواصل الطفلة حديثها" فجأة وبعد دقائق من استشهاد أخي انهالت علينا ثلاث قذائف أمام عيني و كان أمامي في البداية الدخان فقط، وبعد أن هدأت حدة الأدخنة أول ما رأيته رجل من جيراننا اسمه ( أبوعدنان ) قدمه مليئة بالدماء، وكان يوجد على يديه أشلاء لا أدري لمن , تلك اللحظات كانت الفارقة بيني وبين أمي و إخوتي ( إسماعيل وإسحاق ونصار) ، وقبلهم ( محمد )، فسقط الكثير من أقاربي أمام عيني أعمامي وزوجاتهم وأولادهم".
لكن الفاجعة الأكبر كانت "عندما رأيت أمي أمامي جثة هامدة لا تتحرك لم أصدق أنها استشهدت وفقدتها في أقل من لحظة لأنني عند إلقاء القذائف علينا خرجت , وصرت أصرخ على من كان في الداخل ليخرج، ولكن لم أجد أحد يستمع إلي أو يلبي ندائي فقد كانوا شهداء... أمي وإخوتي وأولاد أخي منهم الشهيد والجريح بعد أن وصلت إلى درجة اليأس بأنني فقدت العديد من عائلتي ولم يبق لي إلا أبي".
شهادتها يوم ميلادها..
الطفلة زينب السموني لم تكن بعيدة عن روايات الحزن بل اشد حزنا ما يذكرها بيوم استشهاد والدتها الذي يصادف يوم ميلادها "آه ما أصعبها من ذكريات وأقساها من أحزان..استذكر يوم ميلادها أم استشهادها..الله يرحمها ".
ضحايا عائلة السموني خلال العدوان الإسرائيلي بلغت تسع وعشرون شهيداً "أصبح لدينا ستين يتيماً ... ثلاثة عشر فاقدين لآبائهم ... ثمانية أرامل ... و أكثر من ستين جريحاً " كانت تتحدث وكأنها أعدت إحصائية لقائمة الضحايا والفاتورة باهظة الثمن التي دفعتها عائلتها من صغار وكبار من نساء ورجال جميعهم اقترفوا جريمة واحدة..حبهم لوطنهم وتمسكهم بترابه ورفض مغادرته.
لم تنس الطفلة زينب أن تقدم الورود لأمها يوم ميلادها ولكن هذه المرة بفارق كبير فقد وضعت إكليلا من الزهور على قبرها غير مصدقة أنها لن تراها بعد اليوم و لن تنعم بدفء حضنها.
وخلفت جرائم الحرب بحق الأطفال عددا غير مسبوق من الضحايا خلال العدوان على غزة، حيث استشهد 313 طفلاً تقل أعمارهم عن 18 عاماً وفق تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عدا عن الأضرار النفسية الجسيمة.
في يوم الطفل الفلسطيني اختزل ضحايا العدوان رسالتهم في كلمات بسيطة تعبر عن واقع معاناتهم و الأمل الذي لا زال يحدوهم وتقول رسالتهم :"رسالتنا إلى العالم المتحضر تتلخص في سطرين: ارفعوا الحصار عنا ، وحاكموا مجرمي الحرب الإسرائيليين على ما ارتكبوه بحقنا ولا تقتلوننا مرتين بصمتكم المروع على جرائم الاحتلال ، وتذكروا أن لكم أطفالا في عمرنا وأحلاما تراودنا ... ألسنا أطفالا وبشرا كباقي الأطفال..! أوليس من مسئولية المجتمع الدولي والمؤسسات المعنية بالسلام والحرية أكثر من أي وقت مضى أن يتخذوا مواقف جادة و إنسانية لتوفير الحماية لأطفال فلسطين!
نرجوكم ساعدونا على تحقيق أحلامنا البسيطة المتواضعة وهي ننعم بالعيش بالأمان في وطننا بعيدا عن الحروب والمعاناة أسوة بباقي أطفال العالم "...نرجوكم : لا تنسونا و لا تتركونا نهبا للقتلة و المجرمين...لا تحابونا و لكن فقط أنصفونا!!!
يبتسمون..يتبادلون الضحكات..يلعبون ..يتسامرون....يحاولون الخروج من معاناتهم غير أنه يستحيل عليهم نسيان مشاهد دامية محفورة في ذاكرتهم يوم قتلت قوات الاحتلال آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم الصغار أمام أعينهم...فهل ينسى الأطفال جرائم الاحتلال.
كانت تلك مشاهد من أمسية هادئة لأطفال ناجين من العدوان على غزة جمعهم نادي الصحفي الصغير ضمن برامجه الرامية إلى تخفيف الآثار النفسية غير أن قسوة المشاهد لا زالت ماثلة وهم يتحدثون عن الجرائم التي ارتكبت بحق عائلاتهم ، ويصرخون: بأي ذنب يقتلون؟!من يحاكم المجرمين؟!
ومر يوم الطفل الفلسطيني الذي يصادف الخامس من نيسان الجاري مثقل بالهموم و الذكريات على العديد من أطفال غزة خاصة الناجين من العدوان والذين كتبت لهم الحياة من بين أنياب الموت ليكونوا شهداء على جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
بأي ذنب أفقد بصري ؟!
ما أصعب أن يفقد الإنسان بصره و نور الحياة لعيش في دوامة سوداء ، فكيف به إذا كان طفلا؟
هل تذكرونه...هل شاهدتم وجهه يسيح جلده وعيونه تغلق أبوابها ، إنه الطفل لؤي صبح (11 عاما) الذي أظلمت الدنيا في وجهه بعد أن احترقت عيونه واحتبست دموعه داخل مقلتيه بعد أن أحرق الفوسفور الأبيض وجهه وشوه معالمه..
يقول الطفل صبح : " كنت كالعادة في المنزل أنا وأهلي مختبئين من القصف والرصاصات العشوائية وجاءت لحظة الهدنة التي كان يعلنها الاحتلال فخرجت مع أحد أقاربي الذي فقدته أيضاً لنرى ما حدث في منطقتنا وإذا بصاروخ غادر يطلق علينا ولكنه كان شديد الاحتراق لقد كانت قذيفة فسفورية حارقة سقطت على الأرض لحظتها من شدة الانفجار في حفرة وبجواري قريبي نظرت إليه فوجدته جثةً هامدة أمامي وملئ بالدماء ثم نظرت إلى نفسي فوجدت نفسي غير قادر على التنفس أو حتى الرؤية وكان ذلك في البداية ولكني لم أكن أعرف أو أكتشف بأنني فقدت البصر وبعدها لم أع على نفسي إلا وأنا في المشفى ". .
ويكمل حديثه المجون بعينين مغلقتين "قسرا" :" ما الذنب الذي اقترفته حتى أفقد بصري , سوى أنني طفل فلسطيني " .
"اشتقت إلى اللعب مع أبي"
الطفلة نور المدهون ابنة الشهيد الدكتور إيهاب المدهون الذي قتلته قذيفة إسرائيلية أثناء محاولته إنقاذ بعض الجرحى خلال العدوان على غزة تروي حكاية استشهاد أبيها فتقول:" كان أبي الحضن الدافئ لنا , .. يدرسنا ويراجع معنا دروسنا، ويلعب ويرسم الابتسامة على وجوهنا , رغم انشغاله في عمله ".
و تستذكر الطفلة نور أبيها عندما كانت تقطع الكهرباء لساعات طويلة بسبب الحصار فكان يلعب ويمرح حتى ينسىها قسوة وألم انقطاع التيار الكهربائي .
ولعل ساعات الفرح معدودة في حياتها حيث اصطحبها أبيها إلي الملاهي قبل أيام من استشهاده , "وكانت رحلة ممتعة , ولكن لم أكن أعلم بأنها ستكون آخر رحلة أخرجها مع أبي ,وأن هذه اللحظات السعيدة لن تعود , وأن هده آخر لحظات لأبي معنا" .
وماذا عن استشهاده!! كان هناك عدد من الشهداء والجرحي في منطقة جبل الريس شمال قطاع غزة "وخرج أبي لإسعافهم فورا رغم التحليق المكثف للطائرات في السماء وأصوات الانفجارات القوية , وكان برفقته زميله في العمل المسعف ( محمد أبو حصيرة )، وعندما ذهب إلي منطقة الاستهداف أنقذ أبي اثنين من المصابين، ولكن لم يعثر علي المصاب الثالث..وكان أبي فرحانا و حزينا لأنه أنقذ حياة اثنين من المصابين، و لم يعثر على المصاب الثالث, وعندما التقي بأمي وهي من أصل أوكراني وحدثها بما جري معه , قالت له: " اذهب ممكن أن يكون المصاب الثالث ينزف ويحتاج إلى أحد ليسعفه " .
وتكمل بكل براطة جأش رغم الألم:" عاد أبي إلي منطقة الاستهداف وكانت فوقه الطائرات تحوم في السماء كالغربان , وعندما كان أبي يبحث عن المصاب الثالث .,استهدفتهم الطائرات بصاروخ مباشرة فاستشهد زميله أبو حصيرة وأصيب أبي بجراح خطيرة مكث على إثرها أيام عديدة في العناية المكثفة , حتى أصبح أبي في عداد الشهداء .
ولا زال لدى نور أمل في ملاحقة مجرمي الحرب إذ تقول: " من قتل أبي وحرمني حنانه سيحاكم عاجلاً أم آجل و سيأتي اليوم الذي نحاكم فيه قاتليه" .
" دفنوا عائـلتـي تحـت الركـام "
تحتار الكلمات التي تحاول أن تصف مأساة الطفلة الصابرة دلال أبوعيشة (13عاما) التي لا زالت تصطحب في ذاكرتها ذكريات معلقة على أوتار الحجارة المدمرة من منزلها بعد أن استهدفته الطائرات الحربية الإسرائيلية.
و تروي الطفلة دلال قصتها الأليمة بصوت خافت، وتقول " استشهدت ابنة عمتي وهي أعز صديقاتي فذهبت أنا وأسرتي لبيت العزاء، وبعد مرور فترة زمنية عادوا جميعا إلى المنزل وبقيت أنا بجانب عمتي لمواساتها باعتباري أعز صديقات ابنتها الشهيدة، ومر الوقت علينا ثم اتصلت بأبي ليأتي ويأخذني إلى المنزل بعد أن ينتهي من عمله ولكنه تأخر عن موعده أكثر من أربع ساعات، شعرت بقلق شديد عليه ثم بدأت بتكرار الاتصال عليه ولكن القلق الأكبر أن هاتفه المحمول كان مغلقا".
تنظر إلى السماء كأنها تترحم على روحه قبل أن تكمل حديثها :" ازدادت ضربات قلبي وأصبحت أرتجف من الخوف عليه، وبعد قليل وإذ بخالي يأتي ويقول لي لقد قصف بيتكم يا دلال ودفنت عائلتك بأكملها تحت الركام ،اعتقدت أنها مزحة وأنه يحاول إخافتي ولم أصدق ما قاله لي، ذهبت مهرولة إلى المنزل ولم أجد أمامي إلا أكواما من الحجار المحطمة ،والكارثة أن أهلي مدفونون تحتها".
"تلك الحجارة المحروقة كانت غرفتي، وذاك السرير المتفحم هو لي، كان يحتضن أحلامي، وهنا كنت العب، وهنا كنت أركض مع إخوتي...يا الله".
رحلت عائلة دلال بسرعة البرق قبل أن تودعها ولم تبق لها إلا ذكريات من أنتزعتها من تحت الأنقاض.
"أمي جثة هامدة أمامي..! "
ما أصعب الاستماع و التنقل بين تلك الروايات فكيف بمن عاصرتها وعاشت أحداثها المؤلمة لحظة بلحظة.
الطفلة ألماظة السموني كان شقيقها أول شهيد في عائلتها وتوالت القذائف باتجاههم وهم لا يحركون ساكنا في بيتهم الذي لم يعد "آمنا" فقد أصيبت وأختها سماح في قدمها، فضمتها أمها لحظتها إلى صدرها وكان في هذه اللحظة أعمامها يطمئنون عليهم قبل استشهاد البعض منهم، وكان الجميع يحاول إطفاء الحرائق في منزلهم، ثم جلسنا جميعاً في مكان واحد .
تكمل حديثها بصوت مرتجف "في تمام الساعة الثامنة تم إعدام عمي عطية أمام أعين أولاده وزوجته , بعد أن أعدم الاحتلال الكثير من أبناء عائلتنا وأقاربنا وانتقلوا إلينا مباشرة، حيث هدموا البيت من الجهة الشمالية والرصاص علينا من كل اتجاه، وانتشر جنود الاحتلال حول المنزل وقاموا بالطرق على الباب وكانوا يصرخون: " إن لم تفتحوا الباب فسوف تعدمون جميعكم "... ثم خرجنا، وكنت حافية القدمين، إلى بيت عمي ( طلال ) , فكان البيت مليئاً ، وأيضاً لاحقونا في بيت عمي وطرقوا الباب مرة أخرى ليقوموا بطردنا، ولكن الرجال قالوا لهم : " لن نخرج فهذا بيتنا وهذا وطننا " .
"واضطررنا للخروج وكان معنا أخي (محمد) قبل استشهاده فكان يمسك بيد جدتي العجوز ليساعدها في المشي، فقابلتنا قوة عسكرية قالت لنا : " اذهبوا إلى هذا البيت ", وهو منزل وائل السموني فرحب بنا الرجل وأدخلنا المنزل ليحمينا ولكن يبدو أن مشيئة الله كانت فوق كل شئ ... لا طعام لا ماء ولا كهرباء أيضاً، ولكن فقط كنا نخبز القليل من الخبز لنسد به جوع الصغار، والبرد كان قارسا جداً , دون أمطار إلا رصاصات وقذائف كانت هي أمطار غزة , ففي تلك اللحظات خرج أخي ( محمد ) بعد أن توضأ ليطمئن على من كان في المنطقة وباقي أقاربنا وإذا بقذيقة غادرة قطفت روحه مع روح زوجته أيضاً ".
ولكن هل توقفت رواية الحزن الدامية عند هذا الحد من الجرم؟
تواصل الطفلة حديثها" فجأة وبعد دقائق من استشهاد أخي انهالت علينا ثلاث قذائف أمام عيني و كان أمامي في البداية الدخان فقط، وبعد أن هدأت حدة الأدخنة أول ما رأيته رجل من جيراننا اسمه ( أبوعدنان ) قدمه مليئة بالدماء، وكان يوجد على يديه أشلاء لا أدري لمن , تلك اللحظات كانت الفارقة بيني وبين أمي و إخوتي ( إسماعيل وإسحاق ونصار) ، وقبلهم ( محمد )، فسقط الكثير من أقاربي أمام عيني أعمامي وزوجاتهم وأولادهم".
لكن الفاجعة الأكبر كانت "عندما رأيت أمي أمامي جثة هامدة لا تتحرك لم أصدق أنها استشهدت وفقدتها في أقل من لحظة لأنني عند إلقاء القذائف علينا خرجت , وصرت أصرخ على من كان في الداخل ليخرج، ولكن لم أجد أحد يستمع إلي أو يلبي ندائي فقد كانوا شهداء... أمي وإخوتي وأولاد أخي منهم الشهيد والجريح بعد أن وصلت إلى درجة اليأس بأنني فقدت العديد من عائلتي ولم يبق لي إلا أبي".
شهادتها يوم ميلادها..
الطفلة زينب السموني لم تكن بعيدة عن روايات الحزن بل اشد حزنا ما يذكرها بيوم استشهاد والدتها الذي يصادف يوم ميلادها "آه ما أصعبها من ذكريات وأقساها من أحزان..استذكر يوم ميلادها أم استشهادها..الله يرحمها ".
ضحايا عائلة السموني خلال العدوان الإسرائيلي بلغت تسع وعشرون شهيداً "أصبح لدينا ستين يتيماً ... ثلاثة عشر فاقدين لآبائهم ... ثمانية أرامل ... و أكثر من ستين جريحاً " كانت تتحدث وكأنها أعدت إحصائية لقائمة الضحايا والفاتورة باهظة الثمن التي دفعتها عائلتها من صغار وكبار من نساء ورجال جميعهم اقترفوا جريمة واحدة..حبهم لوطنهم وتمسكهم بترابه ورفض مغادرته.
لم تنس الطفلة زينب أن تقدم الورود لأمها يوم ميلادها ولكن هذه المرة بفارق كبير فقد وضعت إكليلا من الزهور على قبرها غير مصدقة أنها لن تراها بعد اليوم و لن تنعم بدفء حضنها.
وخلفت جرائم الحرب بحق الأطفال عددا غير مسبوق من الضحايا خلال العدوان على غزة، حيث استشهد 313 طفلاً تقل أعمارهم عن 18 عاماً وفق تقرير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عدا عن الأضرار النفسية الجسيمة.
في يوم الطفل الفلسطيني اختزل ضحايا العدوان رسالتهم في كلمات بسيطة تعبر عن واقع معاناتهم و الأمل الذي لا زال يحدوهم وتقول رسالتهم :"رسالتنا إلى العالم المتحضر تتلخص في سطرين: ارفعوا الحصار عنا ، وحاكموا مجرمي الحرب الإسرائيليين على ما ارتكبوه بحقنا ولا تقتلوننا مرتين بصمتكم المروع على جرائم الاحتلال ، وتذكروا أن لكم أطفالا في عمرنا وأحلاما تراودنا ... ألسنا أطفالا وبشرا كباقي الأطفال..! أوليس من مسئولية المجتمع الدولي والمؤسسات المعنية بالسلام والحرية أكثر من أي وقت مضى أن يتخذوا مواقف جادة و إنسانية لتوفير الحماية لأطفال فلسطين!
نرجوكم ساعدونا على تحقيق أحلامنا البسيطة المتواضعة وهي ننعم بالعيش بالأمان في وطننا بعيدا عن الحروب والمعاناة أسوة بباقي أطفال العالم "...نرجوكم : لا تنسونا و لا تتركونا نهبا للقتلة و المجرمين...لا تحابونا و لكن فقط أنصفونا!!!
تعليقات
إرسال تعليق