شهداء "الأعلام البيضاء"..لوحوا بالرايات فحصدتهم
نيران
الدبابات
غزة
– محسن الإفرنجي:
كانت الدبابات الإسرائيلية تقف بكل
"شراسة" أمام منزل المواطن خالد عبد ربه، في شارع القدس بحي عبد ربه في
جباليا شمال القطاع لتلتهم كل ما صادفها، غير أن أول صيد ثمين كان امرأتين وثلاث
فتيات صغيرات قد خرجن من المنزل لتوهن ممسكات بأعلام بيضاء ، فاستجاب الجنود لاستغاثة
العلم الأبيض ولكن على الطريقة الإسرائيلية.
انطلقت صليات "الرصاص
المصبوب" بدون سابق إنذار أو مبرر لتقتل الفتاتين البريئتين أمل عبد ربه،
عامان، وسعاد عبد ربه، 7 أعوام ; وتصيب سعاد عبد ربه، 54 عاماً، وسمر عبد ربه
أربعة أعوام التي أصيبت بجراح خطرة آنذاك.
جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار
وقعت بعد أربعة أيام من بدء الهجوم البري الإسرائيلي على غزة أي في السابع من
يناير/كانون الثاني 2009، ووثقتها منظمة "هيومن رايتس ووتش" الدولية حيث
عثرت آنذاك على أدلة قوامها آثار الرصاصات في الموقع، والسجلات الطبية للضحايا، وفحص
الأطباء الأجانب للمصابتين، على جانب روايات شهود العيان.
ووفق شهادات الشهود وأدلة الدمار
المادية التي شاهدتها "هيومن رايتس ووتش" في الحي بعد أسابيع من انسحاب
قوات الاحتلال، فإنه من الواضح أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تركزت على مسافة
بضعة مئات من الأمتار إلى غرب منزل خالد عبد ربه، حول مسجد صلاح الدين في شارع
القدس حيث لحق الدمار بالمسجد نفسه ومبنيين مجاورين .
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي
ارتكبت سلسلة "جرائم حرب" وفق المنظمات الحقوقية الدولية في إطار ما
أطلقت عليه "عملية الرصاص المصبوب" التي استهدفت قطاع غزة خلال الفترة
من 27 ديسمبر 2008 حتى 18 يناير 2009.
وأسفر العدوان الإسرائيلي عن
استشهاد 1419 فلسطينيناً، من بينهم 1167 (82.2%) مدنياً، كما أصيب 5300 آخرون، وفق
توثيق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، حيث عمدت قوات الاحتلال إلى استهداف
ومهاجمة البيوت الفلسطينية والمنشآت المدنية بما في ذلك المستشفيات والمدارس
والمساجد.
حمراء بدلا من بيضاء..!
وقالت المنظمة الدولية في تقرير لها
"قتلى الأعلام البيضاء" : "استخدمت إسرائيل المدنيين عمداً لردع
الهجمات على الأهداف العسكرية "كدروع بشرية وهو ما ينتهك القانون الإنساني
الدولي".
ولم تكن هذه الجريمة الوحيدة في هذا
الحي ضد المدنيين أو رجال المقاومة الفلسطينية فقد احتجزت قوات الاحتلال المواطن
مجدي عبد ربه لمدة يومين، بدءاً من 5 يناير/كانون الثاني، وأجبرته على "العمل
كمراسل وسيط بين الجيش الإسرائيلي وثلاثة من مقاتلي حماس الجرحى المُحاصرين في أحد
المنازل" وفق تقرير المنظمة.
ويوثق التقرير سبع وقائع أطلق خلالها
جنود إسرائيليون النار من أسلحة خفيفة على مدنيين، أثناء العمليات العسكرية
الموسعة في قطاع غزة في ديسمبر/كانون الأول 2008 ويناير/كانون الثاني 2009 حيث
أسفرت هذه الهجمات عن استشهاد 11 مدنياً، منهم خمس نساء وأربعة أطفال، وإصابة
ثمانية آخرين على الأقل.
وجاء فيه: "كل واقعة من الحالات
الموثقة كان الضحايا فيها يقفون أو يسيرون، أو يتحركون في سيارات بطيئة الحركة
برفقة مدنيين عُزل آخرين، وكانوا يحاولون أن يوضحوا أنهم غير مقاتلين، عبر التلويح
بأعلام بيضاء".
وجميع الأدلة المتوفرة تشير إلى
أن القوات الإسرائيلية المتواجدة كانت تسيطر على المناطق المعنية، وأنه لم يكن ثمة
قتال دائر وقت وقوع هذه الحوادث، وأن المقاتلين الفلسطينيين لم يكونوا مختبئين بين
المدنيين الذين تم إطلاق النار عليهم وقُتلوا".
وطبقاً لأقوال مجدي عبد ربه، فإن
القوات الإسرائيلية قتلت ثلاثة من المقاتلين المحاصرين ليلة 6 يناير/كانون الثاني
وهو ما يطابق حديث المواطن أكرم عياش عبد ربه، 40 عاماً، الذي قال لـ "هيومن
رايتس وتش": "إن الجنود الإسرائيليين أخذوني من منزلي وأجبروني على
التنقل معهم في المنطقة طيلة يومين، بعد أن سددوا نحوي الأسلحة كي أتقدمهم لأفتش
البيوت بحثاً عن المقاتلين والأسلحة".
وقائع الجريمة
ووفقا لخالد، وشقيقه وأمه، فقد توقفت
دبابة إسرائيلية واحدة على الأقل عند الطرف الغربي من المنزل الذي زارته
"هيومن رايتس ووتش" و سمعت الأسرة الدبابة خارج المنزل ثم راح الجنود
ينادون في مكبر للصوت عليهم للخروج.
ومع خشية خروج أي رجال من الأسرة،
خرجت امرأتان وثلاث طفلات وتجمعن لدى الباب، وهن يحملن قطع قماش بيضاء. وخرجن من
الباب ورأين الدبابة الإسرائيلية على مسافة عشرة أمتار وفوهتها مصوبة نحو المنزل.
وقالت سعاد "أم خالد"
التي على السلم الأمامي للمنزل: "رأينا دبابة ورأينا آخرين خلفها. كنا نحمل
الأعلام البيضاء كي يعرفوا أننا مدنيين. أمضينا سبع إلى تسع دقائق نلوح بالأعلام
ونحن ننظر إليهم. وفجأة فتحوا النار وسقطت الفتيات على الأرض وحين التفت تم إطلاق
النار عليّ... كانت الرصاصات تأتي من حيث كانت الدبابة لكن لا أعرف من أطلق
النار".
أصيبت سعاد في رقبتها وصدرها أما أمل
فقد أصيبت في صدرها وبطنها وخرجت أمعاؤها. ماتت الطفلة سعاد على الفور و نقلت أمل
إلى الداخل وماتت هناك لأن سيارة الإسعاف لم تحضر. كما أصيبت سمر في صدرها وخرجت
الرصاصات من ظهرها، مخلفة ثقوباً كبيرة وأضرت بالعمود الفقري و أصيبت
بالشلل".
وتتابع وصف وقائع الجريمة:
"وقفنا بالخارج نحو عشر دقائق. كان الجنود يجلسون فوق الدبابة. والمنطقة
هادئة، لم نر أحداً حولنا، ولم نسمع قصفاً، ولا قتالاً. كانوا يسيطرون تماماً على
المنطقة منذ اليوم الأول للغزو البري".
الرواية الفلسطينية أصدق
أنباء..!
وحتى يتأكد للمنظمة الدولية صدق
الرواية الفلسطينية لشهود العيان استعانت بأخصائي طب شرعي، ( د. يورغن لانغ تومسون
من الدنمارك ود. صابر أحمد وادي من جنوب أفريقيا ) لفحص إصابات سعاد عبد ربه، التي
كانت تتماثل للشفاء في منزل أقاربها في جباليا.
وقال الطبيبان لـ "هيومن
رايتس" :"إن إصابات سعاد متفقة مع قولها أنها تلقت رصاصتين، واحدة في
ذراعها الأيسر والأخرى في الفخذ العلوي الأيسر. ولم تكن الرصاصات كبيرة، حسب
قولهما، لغياب إصابات داخلية جسيمة".
وطبقاً للدكتور تومسن ووادي، اللذان
قدما تقييمهما لنا في حضور أحدهما الآخر، فإن مداخل ومخارج الرصاصة في ذراع سعاد
الأيسر لا يمكن تمييزها بشكل دقيق لأنها بدأت تلتئم. والرصاصة الأخرى، حسبما قالا،
"دخلت الفخذ الأيسر العلوي الخلفي، وخرجت من الخصر الأيسر من الأمام ويتفق
هذا مع زعم سعاد بأنها التفتت إلى يمينها نحو البيت حين بدأ الجنود إطلاق
الرصاص".
وقال خالد عبد ربه وأسرته : "
سمعنا عبر الراديو حوالي الساعة الثانية ظهر يوم إطلاق أن الجيش الإسرائيلي سيتوقف
ثلاث ساعات فيما أطلق عليه "هدنة إنسانية".
ومع لهفتهم على مغادرة الحي،
رفعوا أجساد سعاد وأمل، بالإضافة إلى سمر وسعاد المصابتين، ومضوا إلى الشارع.
وقالت " أم خالد ": "اعترتنا الدهشة حين رأينا الشارع بأكمله
مليئاً بالحفر تكسوه الرمال ولا يمكن للسيارات السير فيه. كان الأمر صعباً للغاية،
وراح الجنود يطلقون الرصاص حولنا لإرهابنا و إجبارنا على العودة".
لكن أسرة عبد ربه واصلت شق طريقها
غرباً عبر بلدة جباليا، حيث عثروا على سيارة إسعاف نقلت القتلى والمصابين إلى
مستشفى الشفاء في مدينة غزة. ومكثوا مع أقاربهم طيلة مدة العدوان.
وقال خالد عبد ربه :"لا أفهم سبب
إطلاق الجنود الإسرائيليين النار على نساء عُزّل يحملن أعلاما بيضاء، ثم يقومون
بتدمير منزلي بعد ذلك (...)أريد شيئاً واحداً لا أكثر أريد أن أفهم... ماذا فعلت
لإسرائيل حتى أعاقب هكذا. أريد أن تصبح هذه أخر جريمة تُرتكب ضد العرب وضد
الفلسطينيين لأننا نريد السلام. آمل أن أكون آخر من عانوا. لقد فقدت أطفالي وبيتي".
ولم تعثر "هيومن رايتس
ووتش" على أية أدلة تؤكد مزاعم إسرائيل بأن المقاتلين الفلسطينيين
استخدموا الضحايا المدنيين كدروع بشرية، أو أدلة على سقوطهم في تبادل لإطلاق النار
مع قوات الخصم.
وقالت في تقريرها: "في كل واقعة
بدا أن اليد العليا للقوات الإسرائيلية وأنها مسيطرة على الوضع، وأن المقاتلين
الفلسطينيين قد غادروا المنطقة التي وقع فيها الحادث. وكان الضحايا من المدنيين
على مرأى من القوات الإسرائيلية ولا يمثلون أدنى تهديد أمني ظاهر".
وكان اثنان من القيادات العسكرية
الإسرائيلية زعما أن المقاتلين الفلسطينيين "استخدموا الأعلام البيضاء لحماية
أنفسهم من الهجوم، لكن لم يقدما تفاصيل تسمح بالتحقيق في هذه المزاعم، مثل ذكر
تاريخ أو مكان أو زمن محدد لمثل هذه الأعمال" حسب المؤسسة الدولية.
الوقائع جميعها تدين القاتل و تحدد
هوية مجرمي الحرب وبانتظار لحظة المحاكمة الدولية على أمل أن تحين ولو بعد حين كما
يرى ضحايا العدوان.
تعليقات
إرسال تعليق