غزة – محسن الإفرنجي:
مرضى في خطر....خدمات مياه ومرافق صحية شبه معطلة وحرارة مرتفعة تشعل الأجواء ، وآبار مياه بلا مياه ...أطفال يقضون إجازتهم الصيفية على قارعة الطريق أو "يتشاجرون مع بعضهم" فيما يواصل طلبة الثانوية العامة جهودهم في سباق محموم مع الوقت للمذاكرة على أضواء "الشموع" والكيروسين ...ليس هذا فلائحة المصروفات ازدادت حدتها في ظل الحاجة إلى شراء أجهزة و مولدات و موتورات و صيانة ووقود وشموع وغيرها.
هذه اللوحة القاتمة يرسمها الحصار الإسرائيلي المتواصل على غزة سواء بثوبه القديم أو الجديد "حسب المزاعم الإسرائيلية" خاصة فيما يتعلق بأزمة انقطاع التيار الكهربائي وتداعياته "المؤلمة" على تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين الغزيين.
ففي ظل الحديث الإسرائيلي عن "سيناريو جديد للحصار على غزة" تتفاقم المعاناة أكثر مع انقطاع التيار الكهربائي لساعات طوال بل لأيام وعليه تصاب مناحي الحياة بالشلل ويتكبد المواطنون مصروفات و أعباء إضافية جراء ذلك.
وكانت محطة الكهرباء في غزة توقفت كلية عن العمل مساء الجمعة الماضي جراء نفاد الوقود، ما أدى إلى تفاقم أزمة انقطاع التيار الكهربائي " بشكل غير مسبوق " حسب جمال الدردساوي مدير العلاقات العامة والإعلام في الشركة الكهرباء.
وقال الدردساوي : "مع توقف محطة الكهرباء عن العمل سيعيش القطاع أزمة حادة جداً حيث سيرتفع عجز الكهرباء إلى أكثر من 60% " موضحا أن البرنامج الذي سيتم اعتماده في ضوء التطورات الجديدة، سيقوم على 6 ساعات كهرباء مقابل 12 ساعة بدون كهرباء في جميع محافظات قطاع غزة دون استثناء".
ويعتمد قطاع غزة على ثلاثة مصادر للتزود بالكهرباء، حيث توفر محطة توليد كهرباء غزة نحو 67 – 70 ميجا وات (34%). وتمد إسرائيل القطاع بـنحو 120 ميجا وات ( 58.5%)، ويستورد القطاع من مصر نحو 17.5 ميجاوات.
وكان م.كنعان عبيد نائب رئيس سلطة الطاقة في غزة حمل وزارة المالية في رام الله المسؤولية عن هذه الأزمة بتقليصها لكميات الوقود الصناعي اللازمة لتشغيل محطة توليد الكهرباء بشكل المطلوب وهو ما تنفيه الحكومة في رام الله.
معاناة بألوان قاتمة..!
ومن المظاهر الجديدة للمعاناة التي أفرزتها أزمة انقطاع التيار الكهربائي حجم المصروفات الجديدة التي باتت تثقل كاهل المواطنين في ظل اضطرارهم إلى " شراء مولدات و صيانتها و شراء جالونات المياه ناهيك عن تلف المخزون الغذائي وعطب العديد من الأجهزة الكهربائية في ظل القطع المتكرر و العودة الفجائية غير المنتظمة للتيار " حسب المواطن طلعت جمعة من رفح جنوب قطاع غزة.
ويقول جمعة " يبدو أننا ودعنا بلا رجعة شهر العسل الذي كنا نعيشه حيث كان التيار الكهربائي لا ينقطع عندنا سوى ساعات معدودة غير أنه ينقط حاليا لساعات وصلت إلى أكثر من عشرين ساعة يوميا".
"إنه وضع مأساوي لا يوصف و لا يطاق ولا يحتمل ..هذا هو الشكل الحقيقي للحصار..لسنا جوعى ولكن نفتقد حريتنا و حقنا الأساسي في الحصول على أبسط مقومات الحياة الكريمة".
حتى أطفال المواطن جمعة طالتهم تداعيات الأزمة ، فمع بدء إجازتهم السنوية ازدادت معاناتهم فهم لا يجدون أجهزة وألعابا يتسلون بها "فلا كمبيوتر و لا أتاري ولا مباريات ولا إنارة .." صرخ ابنه الأكبر عبد الحميد في وجه والده ضاجرا غاضبا.
لكن الخطر الأكبر يكمن في "التداعيات الإنسانية لهذا الوضع الكارثي لا سيما مع ارتفاع درجة الحرارة " فانقطاع الكهرباء يمس القطاعات التجارية والصناعية والمرافق العامة والخدمات كافة ، ويؤثر على خدمات المياه والصرف الصحي المقدمة للمنازل.
وسارعت مؤخرا اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى التحذير من خطورة تداعيات "الأزمة الحادة في التزويد بالكهرباء وما ينتج عن هذا الوضع من عواقب مدمرة حقاً بالنسبة إلى الخدمات العامة ولاسيما نظام الرعاية الصحية الأولية, " نظرا لاعتماد المستشفيات على المولدات لمواجهة الانقطاع اليومي للتيار الكهربائي.
وقالت اللجنة الدولية في تقرير لها :" يعرّض هذا الانقطاع في التيار علاج المرضى وحتى حياتهم لخطر حقيقي ، فتمضي عادة دقيقتان إلى ثلاث دقائق قبل أن يبدأ المولد بالعمل, وتنقطع الأجهزة الإلكترونية عن العمل خلال هذه الفترة. ونتيجة لذلك, يجب إعادة تشغيل أجهزة التنفس الاصطناعي يدوياً, وينقطع علاج غسيل الكلي, وتعلَّق العمليات الجراحية ذلك أن غرف العمليات تغرق في الظلام".
وما يفاقم خطورة الأوضاع أن مخزون الوقود اللازم لمولدات المستشفيات يستمر في النضوب " وخلال ثلاث مرات هذه السنة, أرغم نفاد الوقود المستشفيات على إلغاء جميع العمليات الجراحية الاختيارية وقبول حالات الطوارئ فقط فيما اضطر مستشفى غزة للأطفال إلى نقل جميع المرضى إلى مرفق آخر لأن تشغيله لم يعد ممكناً".
ليس هذا فحسب وتكرر توقف خدمات الغسيل والتنظيف عدة مرات ومع احتمال زيادة استهلاك الكهرباء خلال أشهر الصيف الحار حين تصبح مكيفات الهواء ضرورية, يتوقع أن "تسوء الأوضاع إلى حد أكبر إذا لم تتسلم المستشفيات كميات وافرة من الوقود " حسب تقرير اللجنة الدولية.
ويمكن أيضاً أن تتسبب تقلبات التيار الكهربائي في إلحاق أضرار في التجهيزات الطبية الأساسية التي يصعب إصلاحها بسبب الإغلاق الذي يخضع بموجبه إدخال قطع الغيار للمعدات الطبية إلى غزة لفترات تأخير قصوى يمكن أن تصل إلى عدة أشهر.
وكانت سلطات الاحتلال أوقفت إمداد قطاع غزة بوقود الطاقة الصناعي اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء لمدة ستة أيام بشكل تام وسمحت في الأيام التي فتح خلالها المعبر بإمداد المحطة بنحو 2 مليون لتر، وهي كمية تكفي لتشغيل اقل من 40% من طاقتها الإنتاجية .
من أطفأ النور في غزة؟
وتقول مؤسسة "مسلك" الحقوقية الإسرائيلية في تقرير لها بعنوان " من أطفأ النور في غزة؟" : "يضطر الناس، نتيجة لانقطاع الكهرباء، إلى البحث عن بدائل أخرى واللجوء إلى المولدات الكهربائية التي يتم إحضارها عبر الأنفاق، ولسبب سوء استخدامها وتشغيلها يتكبّد الناسَ ثمنا باهظا يودي بحياتهم ويوقع فيهم الإصابات".
المعاناة الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي لساعات طوال لها أوجه عدة و تداعيات "قاسية" على حياة المواطنين الغزيين وهو ما يكشف بوضوح أن الحصار ليس في نقص الغذاء و إنما ضمان حرية الحركة والتنقل للأغراض المختلفة خاصة للمرضى و الطلبة و غيرهم وتوفر المواد الأساسية للحياة و من أهمها الوقود الصناعي الذي تعتمد عليه محطة الكهرباء في توليد الطاقة الكهربائية.
وعن خلفيات أزمة الكهرباء تقول "مسلك" المهتمة بالدفاع عن حرية الحركة : "يحتاج قطاع غزة إلى طاقة كهربائية إجمالية تصل إلى 244 ميچا واط، يُنقَل نحو 120 منها من إسرائيل بواسطة عشرة خطوط من التيار العالي، وتنقَل 17 منها إلى منطقة رفح من مصر، أما الكمية المتبقية، أي 107 ميچا واط، فيُفترَض أن توفرها محطة التوليد العاملة في قطاع غزة ".
وتتابع :" وفق التخطيط الذي وُضع لمحطة توليد الطاقة في غزة، التي بدأت عملها عام 2002 ، يفترَض أن تزوّد المحطة طاقة قصوى تعادل نحو 140 ميچا واط، بما يتلاءم واحتياج الكهرباء في ساعات الاستهلاك القصوى " مع الأخذ بعين الاعتبار نمو قطاع غزة في المستقبل.
و مع ذلك، " لم يصل إنتاج المحطة إلا إلى ما يقارب 90 ميچا واط فقط حتى العام 2006 نظرًا لعدم قدرة شبكة النقل على إنتاج الكمية اللازمة كلها".
وكانت محطة التوليد تعرضت إلى عملية قصف من طائرات الاحتلال أدى إلى فقدانها قدرتها على إنتاج كمية الطاقة اللازمة لسكان غزة وبعد ترميمها على نحو جزئي وتدريجي، وصل إنتاجها ما يعادل نحو 80 ميچا واط.
أدوار متداخلة و حلقة مفقودة
وتعاني القدرة الإنتاجية لمحطة التوليد من ضائقة أكبر نظرا لاعتمادها على السولار الصناعي الذي يزوُّد عبر قوات الاحتلال التي تفرض قيودا منذ عام 2007 على كمية السولار المسموح بإدخالها إلى قطاع غزة غير أن العجز أكبر بكثير، فبسبب وضع الصيانة السيئ للشبكة، يتم فقدان الطاقة في الخطوط وضعف التيار الكهربائي.
وماذا عن دور الاتحاد الأوروبي في الأزمة القائمة ؟ تقول " مسلك" : "تكفّل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأوروبية منذ صيف 2006 وحتى نهاية 2009 بشراء السولار الصناعي الضروري لتشغيل محطة التوليد في غزة مباشرة من شركة "دور" الإسرائيلية، و أنفق لهذه الغاية نحو ربع الميزانية السنوية التي يخصصها لتمويل السلطة الفلسطينية ".
لكن "التمويل المباشر للسولار الصناعي القادم من إسرائيل إلى قطاع غزة أوقف في إطار تقليص الاتحاد المبالغ الممنوحة للسلطة الفلسطينية ضمن المشروع نفسه، فتقلصت تلك المبالغ من 219 إلى 158 مليون يورو بين عامَيْ 2009 و 22010 فأخذت بعض الدول الأوروبية على عاتقها استكمال شراء السولار الصناعي لمحطة توليد الطاقة من شركة "دور ألون" وحتى اليوم تم تخصيص 20 مليون يورو لهذا الغرض".
وفي مقابل هذا الدور تتحدث " مسلك" عن دور السلطة الفلسطينية فتقول : "منذ تشرين الثاني 2009 ، توقف الاتحاد الأوروبي عن تحويل المبالغ إلى شركة دور ألون، وأصبح تحويلها يتم عبر سلطة الطاقة التابعة للسلطة الفلسطينية على أن تحولها هذه إلى شركة دور ألون لقاء السولار الصناعي الذي تشتريه منها أي أن السلطة الفلسطينية غدت مرة أخرى القيّمة على تمويل تشغيل محطة التوليد في غزة، إضافة إلى قيامها بسداد ثمن الكهرباء المبتاعة من إسرائيل ومصر إلى قطاع غزة".
ويقضي الاتفاق المبرم بين السلطة الفلسطينية ومحطة التوليد في غزة بأن تموّل السلطة الفلسطينية ثمن السولار الصناعي وأن تدفع كل شهر 2.5 مليون دولار لمحطة توليد الطاقة لقاء المصاريف المترتبة عن التشغيل ".
خلافات "كهربائية"..!
لكن ثمة مشكلة لا زالت قائمة و يتعلق جانب منها بالتجاذبات و الخلافات السياسية بين حكومتي غزة و رام الله ، وتضيف "مسلك " في تقريرها :" يبلغ سعر السولار الذي تسمح إسرائيل بإدخاله أسبوعيًا إلى قطاع غزة نحو 49 مليون ش.ج (الشيكل هو العملة الإسرائيلية المتداولة فلسطينيا) للشهر لكن المبالغ التي حولتها السلطة الفلسطينية في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري انخفضت شهريًا بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 30 مليون ش.ج. دُفعت في نيسان وقد أدى هذا الوضع إلى حدوث انخفاض في كمية السولار الصناعي المنقول إلى قطاع غزة منذ مطلع 2010 من 7.5 مليون لتر في كانون الثاني، إلى 5.4 في آذار و 5.3 - في نيسان، مقابل ما يقارب بالمتوسط 9 مليون لتر كانت تنقل إلى القطاع كل شهر خلال العام 2009 ومقابل 14 مليون لتر وهي الكمية التي تحتاج المحطة إليها كل شهر لتعمل بقدرتها الحالية.
و تفسر السلطة الفلسطينية سبب الهبوط التدريجي في المبلغ الذي ترصده لشراء السولار الصناعي بـ "عجزها عن استيفاء كافة التزاماتها المالية، ورغبتها في أن يتحمل سكان القطاع جزءا من كلفة استهلاكهم للكهرباء، وفق ما تتيح لهم أوضاعهم المعيشية " وفق التقرير.
وثمة مشكلة في الجباية تكشف عنها "مسلك" فتقول : " من ضمن المبالغ التي تحولها السلطة الفلسطينية إلى شركة دور ألون لقاء شراء السولار الصناعي، لا تصل المبالغ التي تتم جبايتها من مستهلكي الكهرباء في القطاع إلا إلى بضعة ملايين من الشواقل في الشهر".
فرغم أن حجم المبالغ التي يجب أن تجبيها شركة توزيع كهرباء محافظات غزة تصل إلى ما بين 50 و 60 مليون ش.ج في الشهر، فإن "ما تجمعه الشركة لا يتجاوز ما بين 15 و 18 - مليون ش.ج في الشهر حيث يحوَّل الجزء الأكبر من المبلغ إلى محطة التوليد، وينفَق ما يبقى منه كرواتب وتكاليف للصيانة، أي أن الشركة لا تنجح برصد أكثر من بضعة ملايين لشراء السولار الصناعي من مجمل ما تجبيه شهريًا" وفق إفادات مسئولين لباحثي المؤسسة الحقوقية الإسرائيلية.
من جانبها أكدت حكومة غزة اهتمامها بموضوع تحسين وضع الجباية المتعلقة بخدمات الكهرباء، موضحة أنها "تعتزم تخصيص أفراد من الشرطة سيناط بهم مرافقة موظفي شركة توزيع كهرباء محافظات غزة لإلزام السكان بتسديد حساباتهم مقابل استهلاك الكهرباء".
لكن المواطنين المحرومين معظم الوقت من خدمات الكهرباء "لا يجدون مبررا لمطالبتهم و إلزامهم بتسديد المستحقات في ظل أوضاع اقتصادية متردية و بطالة متفشية و الأهم أزمة تيار كهربائي متواصلة".
إسرائيل تتحمل مطلق المسئولية..!
وبعيدا عن الخلافات السياسية التي أفسدت أوجه الحياة المختلفة للمواطنين الفلسطينيين فإن "إسرائيل، بوصفها القوة التي تحتل قطاع غزة تتحمل المسؤولية عن التزويد المنتظم للكهرباء لسكان القطاع. ولا يغير في الأمر أنها قد أبرمت اتفاقات مع السلطة الفلسطينية تنظم هذه المسؤولية، خاصة في تسهيل عمل شبكة الكهرباء في قطاع غزة، وفرضها القيود على إدخال السولار والمواد الضرورية للصيانة" وفق جمعية "مسلك".
كما دعت "مسلك" السلطة الفلسطينية في رام الله "كونها تلقى الميزانيات من المجتمع الدولي لمساعدتها في
القيام بدورها" إلى تحمل المسؤولية عن حقوق سكان قطاع غزة، بما في ذلك حقهم في الحياة والصحة والتعليم، وفي أن تتوفر لهم ظروف العيش اللائقة، وأن يشربوا المياه النقية، وهي حقوق لا يمكن إنجازها، في واقع قطاع غزة اليوم، بدون شبكة كهرباء صالحة".
وحثت الحكومتين في غزة و رام الله على العمل بشكل منسق مع الجهات ذات الصلة، لتوفير تدفق الكهرباء على نحو سليم، ووضع حقوق سكان غزة ضمن أولوياتهم مع مراعاة تدهور الوضع الاقتصادي في القطاع المحاصر.
وكان مدير عام شركة الكهرباء في غزة سهيل سكيك طرح طرح على الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى خلال زيارته لغزة منتصف الشهر الجاري العمل السريع لتمويل كميات إضافية من الوقود الصناعي لتشغيل وحدة إنتاج ثانية علي الأقل في محطة توليد الكهرباء.
كما طرح في ورقته لموسى زيادة القدرة التعاقدية مع شركة القناة المصرية من 17 ميجاوات إلي 21 ميجا وات، وسرعة البدء لتنفيذ مشروع إمداد محطة توليد الكهرباء بالغاز المصري.
الحصار كما تحاول إسرائيل أن تصوره للعالم أن "لا أزمة غذائية و لا مجاعة في غزة" لكن الوجه الحقيقي للحصار يتجلى في معاناة يومية و متجددة للمواطنين جراء حرمانهم من أبسط حقوقهم الاجتماعية و الصحية و الاقتصادية و حقهم في حرية الحركة و التنقل وحقهم في حياة بلا "ظلام".
مرضى في خطر....خدمات مياه ومرافق صحية شبه معطلة وحرارة مرتفعة تشعل الأجواء ، وآبار مياه بلا مياه ...أطفال يقضون إجازتهم الصيفية على قارعة الطريق أو "يتشاجرون مع بعضهم" فيما يواصل طلبة الثانوية العامة جهودهم في سباق محموم مع الوقت للمذاكرة على أضواء "الشموع" والكيروسين ...ليس هذا فلائحة المصروفات ازدادت حدتها في ظل الحاجة إلى شراء أجهزة و مولدات و موتورات و صيانة ووقود وشموع وغيرها.
هذه اللوحة القاتمة يرسمها الحصار الإسرائيلي المتواصل على غزة سواء بثوبه القديم أو الجديد "حسب المزاعم الإسرائيلية" خاصة فيما يتعلق بأزمة انقطاع التيار الكهربائي وتداعياته "المؤلمة" على تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين الغزيين.
ففي ظل الحديث الإسرائيلي عن "سيناريو جديد للحصار على غزة" تتفاقم المعاناة أكثر مع انقطاع التيار الكهربائي لساعات طوال بل لأيام وعليه تصاب مناحي الحياة بالشلل ويتكبد المواطنون مصروفات و أعباء إضافية جراء ذلك.
وكانت محطة الكهرباء في غزة توقفت كلية عن العمل مساء الجمعة الماضي جراء نفاد الوقود، ما أدى إلى تفاقم أزمة انقطاع التيار الكهربائي " بشكل غير مسبوق " حسب جمال الدردساوي مدير العلاقات العامة والإعلام في الشركة الكهرباء.
وقال الدردساوي : "مع توقف محطة الكهرباء عن العمل سيعيش القطاع أزمة حادة جداً حيث سيرتفع عجز الكهرباء إلى أكثر من 60% " موضحا أن البرنامج الذي سيتم اعتماده في ضوء التطورات الجديدة، سيقوم على 6 ساعات كهرباء مقابل 12 ساعة بدون كهرباء في جميع محافظات قطاع غزة دون استثناء".
ويعتمد قطاع غزة على ثلاثة مصادر للتزود بالكهرباء، حيث توفر محطة توليد كهرباء غزة نحو 67 – 70 ميجا وات (34%). وتمد إسرائيل القطاع بـنحو 120 ميجا وات ( 58.5%)، ويستورد القطاع من مصر نحو 17.5 ميجاوات.
وكان م.كنعان عبيد نائب رئيس سلطة الطاقة في غزة حمل وزارة المالية في رام الله المسؤولية عن هذه الأزمة بتقليصها لكميات الوقود الصناعي اللازمة لتشغيل محطة توليد الكهرباء بشكل المطلوب وهو ما تنفيه الحكومة في رام الله.
معاناة بألوان قاتمة..!
ومن المظاهر الجديدة للمعاناة التي أفرزتها أزمة انقطاع التيار الكهربائي حجم المصروفات الجديدة التي باتت تثقل كاهل المواطنين في ظل اضطرارهم إلى " شراء مولدات و صيانتها و شراء جالونات المياه ناهيك عن تلف المخزون الغذائي وعطب العديد من الأجهزة الكهربائية في ظل القطع المتكرر و العودة الفجائية غير المنتظمة للتيار " حسب المواطن طلعت جمعة من رفح جنوب قطاع غزة.
ويقول جمعة " يبدو أننا ودعنا بلا رجعة شهر العسل الذي كنا نعيشه حيث كان التيار الكهربائي لا ينقطع عندنا سوى ساعات معدودة غير أنه ينقط حاليا لساعات وصلت إلى أكثر من عشرين ساعة يوميا".
"إنه وضع مأساوي لا يوصف و لا يطاق ولا يحتمل ..هذا هو الشكل الحقيقي للحصار..لسنا جوعى ولكن نفتقد حريتنا و حقنا الأساسي في الحصول على أبسط مقومات الحياة الكريمة".
حتى أطفال المواطن جمعة طالتهم تداعيات الأزمة ، فمع بدء إجازتهم السنوية ازدادت معاناتهم فهم لا يجدون أجهزة وألعابا يتسلون بها "فلا كمبيوتر و لا أتاري ولا مباريات ولا إنارة .." صرخ ابنه الأكبر عبد الحميد في وجه والده ضاجرا غاضبا.
لكن الخطر الأكبر يكمن في "التداعيات الإنسانية لهذا الوضع الكارثي لا سيما مع ارتفاع درجة الحرارة " فانقطاع الكهرباء يمس القطاعات التجارية والصناعية والمرافق العامة والخدمات كافة ، ويؤثر على خدمات المياه والصرف الصحي المقدمة للمنازل.
وسارعت مؤخرا اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى التحذير من خطورة تداعيات "الأزمة الحادة في التزويد بالكهرباء وما ينتج عن هذا الوضع من عواقب مدمرة حقاً بالنسبة إلى الخدمات العامة ولاسيما نظام الرعاية الصحية الأولية, " نظرا لاعتماد المستشفيات على المولدات لمواجهة الانقطاع اليومي للتيار الكهربائي.
وقالت اللجنة الدولية في تقرير لها :" يعرّض هذا الانقطاع في التيار علاج المرضى وحتى حياتهم لخطر حقيقي ، فتمضي عادة دقيقتان إلى ثلاث دقائق قبل أن يبدأ المولد بالعمل, وتنقطع الأجهزة الإلكترونية عن العمل خلال هذه الفترة. ونتيجة لذلك, يجب إعادة تشغيل أجهزة التنفس الاصطناعي يدوياً, وينقطع علاج غسيل الكلي, وتعلَّق العمليات الجراحية ذلك أن غرف العمليات تغرق في الظلام".
وما يفاقم خطورة الأوضاع أن مخزون الوقود اللازم لمولدات المستشفيات يستمر في النضوب " وخلال ثلاث مرات هذه السنة, أرغم نفاد الوقود المستشفيات على إلغاء جميع العمليات الجراحية الاختيارية وقبول حالات الطوارئ فقط فيما اضطر مستشفى غزة للأطفال إلى نقل جميع المرضى إلى مرفق آخر لأن تشغيله لم يعد ممكناً".
ليس هذا فحسب وتكرر توقف خدمات الغسيل والتنظيف عدة مرات ومع احتمال زيادة استهلاك الكهرباء خلال أشهر الصيف الحار حين تصبح مكيفات الهواء ضرورية, يتوقع أن "تسوء الأوضاع إلى حد أكبر إذا لم تتسلم المستشفيات كميات وافرة من الوقود " حسب تقرير اللجنة الدولية.
ويمكن أيضاً أن تتسبب تقلبات التيار الكهربائي في إلحاق أضرار في التجهيزات الطبية الأساسية التي يصعب إصلاحها بسبب الإغلاق الذي يخضع بموجبه إدخال قطع الغيار للمعدات الطبية إلى غزة لفترات تأخير قصوى يمكن أن تصل إلى عدة أشهر.
وكانت سلطات الاحتلال أوقفت إمداد قطاع غزة بوقود الطاقة الصناعي اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء لمدة ستة أيام بشكل تام وسمحت في الأيام التي فتح خلالها المعبر بإمداد المحطة بنحو 2 مليون لتر، وهي كمية تكفي لتشغيل اقل من 40% من طاقتها الإنتاجية .
من أطفأ النور في غزة؟
وتقول مؤسسة "مسلك" الحقوقية الإسرائيلية في تقرير لها بعنوان " من أطفأ النور في غزة؟" : "يضطر الناس، نتيجة لانقطاع الكهرباء، إلى البحث عن بدائل أخرى واللجوء إلى المولدات الكهربائية التي يتم إحضارها عبر الأنفاق، ولسبب سوء استخدامها وتشغيلها يتكبّد الناسَ ثمنا باهظا يودي بحياتهم ويوقع فيهم الإصابات".
المعاناة الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي لساعات طوال لها أوجه عدة و تداعيات "قاسية" على حياة المواطنين الغزيين وهو ما يكشف بوضوح أن الحصار ليس في نقص الغذاء و إنما ضمان حرية الحركة والتنقل للأغراض المختلفة خاصة للمرضى و الطلبة و غيرهم وتوفر المواد الأساسية للحياة و من أهمها الوقود الصناعي الذي تعتمد عليه محطة الكهرباء في توليد الطاقة الكهربائية.
وعن خلفيات أزمة الكهرباء تقول "مسلك" المهتمة بالدفاع عن حرية الحركة : "يحتاج قطاع غزة إلى طاقة كهربائية إجمالية تصل إلى 244 ميچا واط، يُنقَل نحو 120 منها من إسرائيل بواسطة عشرة خطوط من التيار العالي، وتنقَل 17 منها إلى منطقة رفح من مصر، أما الكمية المتبقية، أي 107 ميچا واط، فيُفترَض أن توفرها محطة التوليد العاملة في قطاع غزة ".
وتتابع :" وفق التخطيط الذي وُضع لمحطة توليد الطاقة في غزة، التي بدأت عملها عام 2002 ، يفترَض أن تزوّد المحطة طاقة قصوى تعادل نحو 140 ميچا واط، بما يتلاءم واحتياج الكهرباء في ساعات الاستهلاك القصوى " مع الأخذ بعين الاعتبار نمو قطاع غزة في المستقبل.
و مع ذلك، " لم يصل إنتاج المحطة إلا إلى ما يقارب 90 ميچا واط فقط حتى العام 2006 نظرًا لعدم قدرة شبكة النقل على إنتاج الكمية اللازمة كلها".
وكانت محطة التوليد تعرضت إلى عملية قصف من طائرات الاحتلال أدى إلى فقدانها قدرتها على إنتاج كمية الطاقة اللازمة لسكان غزة وبعد ترميمها على نحو جزئي وتدريجي، وصل إنتاجها ما يعادل نحو 80 ميچا واط.
أدوار متداخلة و حلقة مفقودة
وتعاني القدرة الإنتاجية لمحطة التوليد من ضائقة أكبر نظرا لاعتمادها على السولار الصناعي الذي يزوُّد عبر قوات الاحتلال التي تفرض قيودا منذ عام 2007 على كمية السولار المسموح بإدخالها إلى قطاع غزة غير أن العجز أكبر بكثير، فبسبب وضع الصيانة السيئ للشبكة، يتم فقدان الطاقة في الخطوط وضعف التيار الكهربائي.
وماذا عن دور الاتحاد الأوروبي في الأزمة القائمة ؟ تقول " مسلك" : "تكفّل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأوروبية منذ صيف 2006 وحتى نهاية 2009 بشراء السولار الصناعي الضروري لتشغيل محطة التوليد في غزة مباشرة من شركة "دور" الإسرائيلية، و أنفق لهذه الغاية نحو ربع الميزانية السنوية التي يخصصها لتمويل السلطة الفلسطينية ".
لكن "التمويل المباشر للسولار الصناعي القادم من إسرائيل إلى قطاع غزة أوقف في إطار تقليص الاتحاد المبالغ الممنوحة للسلطة الفلسطينية ضمن المشروع نفسه، فتقلصت تلك المبالغ من 219 إلى 158 مليون يورو بين عامَيْ 2009 و 22010 فأخذت بعض الدول الأوروبية على عاتقها استكمال شراء السولار الصناعي لمحطة توليد الطاقة من شركة "دور ألون" وحتى اليوم تم تخصيص 20 مليون يورو لهذا الغرض".
وفي مقابل هذا الدور تتحدث " مسلك" عن دور السلطة الفلسطينية فتقول : "منذ تشرين الثاني 2009 ، توقف الاتحاد الأوروبي عن تحويل المبالغ إلى شركة دور ألون، وأصبح تحويلها يتم عبر سلطة الطاقة التابعة للسلطة الفلسطينية على أن تحولها هذه إلى شركة دور ألون لقاء السولار الصناعي الذي تشتريه منها أي أن السلطة الفلسطينية غدت مرة أخرى القيّمة على تمويل تشغيل محطة التوليد في غزة، إضافة إلى قيامها بسداد ثمن الكهرباء المبتاعة من إسرائيل ومصر إلى قطاع غزة".
ويقضي الاتفاق المبرم بين السلطة الفلسطينية ومحطة التوليد في غزة بأن تموّل السلطة الفلسطينية ثمن السولار الصناعي وأن تدفع كل شهر 2.5 مليون دولار لمحطة توليد الطاقة لقاء المصاريف المترتبة عن التشغيل ".
خلافات "كهربائية"..!
لكن ثمة مشكلة لا زالت قائمة و يتعلق جانب منها بالتجاذبات و الخلافات السياسية بين حكومتي غزة و رام الله ، وتضيف "مسلك " في تقريرها :" يبلغ سعر السولار الذي تسمح إسرائيل بإدخاله أسبوعيًا إلى قطاع غزة نحو 49 مليون ش.ج (الشيكل هو العملة الإسرائيلية المتداولة فلسطينيا) للشهر لكن المبالغ التي حولتها السلطة الفلسطينية في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري انخفضت شهريًا بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 30 مليون ش.ج. دُفعت في نيسان وقد أدى هذا الوضع إلى حدوث انخفاض في كمية السولار الصناعي المنقول إلى قطاع غزة منذ مطلع 2010 من 7.5 مليون لتر في كانون الثاني، إلى 5.4 في آذار و 5.3 - في نيسان، مقابل ما يقارب بالمتوسط 9 مليون لتر كانت تنقل إلى القطاع كل شهر خلال العام 2009 ومقابل 14 مليون لتر وهي الكمية التي تحتاج المحطة إليها كل شهر لتعمل بقدرتها الحالية.
و تفسر السلطة الفلسطينية سبب الهبوط التدريجي في المبلغ الذي ترصده لشراء السولار الصناعي بـ "عجزها عن استيفاء كافة التزاماتها المالية، ورغبتها في أن يتحمل سكان القطاع جزءا من كلفة استهلاكهم للكهرباء، وفق ما تتيح لهم أوضاعهم المعيشية " وفق التقرير.
وثمة مشكلة في الجباية تكشف عنها "مسلك" فتقول : " من ضمن المبالغ التي تحولها السلطة الفلسطينية إلى شركة دور ألون لقاء شراء السولار الصناعي، لا تصل المبالغ التي تتم جبايتها من مستهلكي الكهرباء في القطاع إلا إلى بضعة ملايين من الشواقل في الشهر".
فرغم أن حجم المبالغ التي يجب أن تجبيها شركة توزيع كهرباء محافظات غزة تصل إلى ما بين 50 و 60 مليون ش.ج في الشهر، فإن "ما تجمعه الشركة لا يتجاوز ما بين 15 و 18 - مليون ش.ج في الشهر حيث يحوَّل الجزء الأكبر من المبلغ إلى محطة التوليد، وينفَق ما يبقى منه كرواتب وتكاليف للصيانة، أي أن الشركة لا تنجح برصد أكثر من بضعة ملايين لشراء السولار الصناعي من مجمل ما تجبيه شهريًا" وفق إفادات مسئولين لباحثي المؤسسة الحقوقية الإسرائيلية.
من جانبها أكدت حكومة غزة اهتمامها بموضوع تحسين وضع الجباية المتعلقة بخدمات الكهرباء، موضحة أنها "تعتزم تخصيص أفراد من الشرطة سيناط بهم مرافقة موظفي شركة توزيع كهرباء محافظات غزة لإلزام السكان بتسديد حساباتهم مقابل استهلاك الكهرباء".
لكن المواطنين المحرومين معظم الوقت من خدمات الكهرباء "لا يجدون مبررا لمطالبتهم و إلزامهم بتسديد المستحقات في ظل أوضاع اقتصادية متردية و بطالة متفشية و الأهم أزمة تيار كهربائي متواصلة".
إسرائيل تتحمل مطلق المسئولية..!
وبعيدا عن الخلافات السياسية التي أفسدت أوجه الحياة المختلفة للمواطنين الفلسطينيين فإن "إسرائيل، بوصفها القوة التي تحتل قطاع غزة تتحمل المسؤولية عن التزويد المنتظم للكهرباء لسكان القطاع. ولا يغير في الأمر أنها قد أبرمت اتفاقات مع السلطة الفلسطينية تنظم هذه المسؤولية، خاصة في تسهيل عمل شبكة الكهرباء في قطاع غزة، وفرضها القيود على إدخال السولار والمواد الضرورية للصيانة" وفق جمعية "مسلك".
كما دعت "مسلك" السلطة الفلسطينية في رام الله "كونها تلقى الميزانيات من المجتمع الدولي لمساعدتها في
القيام بدورها" إلى تحمل المسؤولية عن حقوق سكان قطاع غزة، بما في ذلك حقهم في الحياة والصحة والتعليم، وفي أن تتوفر لهم ظروف العيش اللائقة، وأن يشربوا المياه النقية، وهي حقوق لا يمكن إنجازها، في واقع قطاع غزة اليوم، بدون شبكة كهرباء صالحة".
وحثت الحكومتين في غزة و رام الله على العمل بشكل منسق مع الجهات ذات الصلة، لتوفير تدفق الكهرباء على نحو سليم، ووضع حقوق سكان غزة ضمن أولوياتهم مع مراعاة تدهور الوضع الاقتصادي في القطاع المحاصر.
وكان مدير عام شركة الكهرباء في غزة سهيل سكيك طرح طرح على الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى خلال زيارته لغزة منتصف الشهر الجاري العمل السريع لتمويل كميات إضافية من الوقود الصناعي لتشغيل وحدة إنتاج ثانية علي الأقل في محطة توليد الكهرباء.
كما طرح في ورقته لموسى زيادة القدرة التعاقدية مع شركة القناة المصرية من 17 ميجاوات إلي 21 ميجا وات، وسرعة البدء لتنفيذ مشروع إمداد محطة توليد الكهرباء بالغاز المصري.
الحصار كما تحاول إسرائيل أن تصوره للعالم أن "لا أزمة غذائية و لا مجاعة في غزة" لكن الوجه الحقيقي للحصار يتجلى في معاناة يومية و متجددة للمواطنين جراء حرمانهم من أبسط حقوقهم الاجتماعية و الصحية و الاقتصادية و حقهم في حرية الحركة و التنقل وحقهم في حياة بلا "ظلام".
تعليقات
إرسال تعليق