غزة – محسن الإفرنجي:
ما بين وصفه بأنه "إساءة لسمعة مصر" و فزاعة "حماية الأمن القومي المصري " ونعته بأنه "جدار برلين عربي" يشارف العمل في بناء الجدار الفولاذي على الحدود المصرية الفلسطينية جنوب قطاع غزة على الانتهاء في ظل مخاوف من تأثيراته على الأنفاق الحدودية ومع وصول القضية إلى أروقة القضاء المصري.
ورغم أن العمل في بناء الجدار لم يتوقف خلال المدة السابقة و لم يعد يستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام إلا أن القضاء المصري أعاده إلى واجهة الأحداث بعد إثارة القضية في محافله رغم تأجيل النظر فيها أكثر من مرة حتى الآن.
وكان السفير المصري إبراهيم يسري تقدَّم بدعوى انضمَّ إليها 280 ناشطًا من كافة ألوان الطيف السياسي ، من بينهم 6 نشطاء أجانب وسياسيين ومفكرين ورموز وطنية مصرية؛ لوقف وإلغاء القرار الصادر بإنشاء "الجدار الفولاذي".
واستندت صحيفة الدعوى القضائية المقدمة ضد رئيس جمهورية مصر حسني مبارك إلى مخالفة بناء الجدار لمبادئ القانون الدولي الذي ينظِّم العلاقات الدولية وقت الحروب والنزاعات المسلحة وقواعد "لاهاي" 1907م، والتي تؤكد احترام قوانين وأعراف الحرب البرية، وتنظيم استخدام القوة، وحظر تدمير الممتلكات للأطراف المتنازعة.
كما أوردت الدعوى مخالفة الجدار لاتفاقية "جنيف" الرابعة، والتي تعني بالمدنيين وحمايتهم في حال الحرب، كما أنها توضِّح طبيعة الحكم في مناطق النزاع، والحفاظ على الحالة القانونية القائمة في المنطقة عند احتلالها، وحظر نقل سكان محليين خارج المنطقة قهريًّا، والحظر على إسكان مواطني الدولة في المنطقة المحتلة.
البرادعي:لا للجدار!
وانضم مؤخرا إلى قائمة المناهضين لإقامة الجدار الفولاذي الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قال في تصريحات له :"قضية الجدار الفولاذي باتت تمثل إساءة لسمعة مصر، خاصة أنه بات أشبه بالمشاركة في حصار غزة التي تعد أكبر سجن في العالم نتيجة الحصار المفروض عليها".
لكن البرادعي يطرح حلا طالما دعا إليه الفلسطينيون ويتلخص في" إغلاق الأنفاق الحدودية وفتح المعابر وإنشاء منطقة حرة في رفح يتسوق فيها الفلسطينيون، ثم يعودون إلى غزة مرة أخرى".
يشاركه ذات الرأي د.عبدالله الأشعل الخبير في القانون الدولي وقال:" بسبب وضع مصر كمنفذ وحيد على الجانب الآخر لغزة فقد رتب القانون الدولي عليها التزامات أقسى وهي ضرورة فتح معبر رفح وكافة منافذ الحدود الأخرى لإنقاذ غزة من مخطط الإبادة الإسرائيلي".وأضاف الخبير الأشعل :"إذا كان جدار برلين قد استهدف في إطار التفكير الساذج منع شرق ألمانيا عن التواصل مع غربها ولم ينتهك أياً من أحكام القانون الدولي الظاهرة، فإن جدار إسرائيل وجدار مصر يناقضان أحكام القانون الدولي ويعتبران كلاهما جريمة من جرائم النظام الدولي".مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أبدى مخاوف جمة من تداعيات إقامة الجدار وقال في تقرير له :"يدفع حاجز الصلب الذي شارفت مصر على الانتهاء من بنائه على طول حدودها مع غزة سكان القطاع نحو الحافة... فكيف يمكنهم البقاء على قيد الحياة في غياب التجارة الضخمة التي تتم عن طريق الأنفاق تحت الأرض؟".
أين المفر..!
ويعتمد قطاع غزة على الأنفاق في استيراد أكثر من 80 بالمائة وفق تقديرات البنك الدولي كما أنها تشغل أيد عاملة قدرها زياد الظاظا، وزير الاقتصاد في حكومة غزة بنحو عشرين ألف عامل قبل العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية العام 2008 حيث لازال نصف هذا العدد يعمل فيها الآن.
مدير أحد الأنفاق الذي كنى نفسه بأبي عنتر (45 عاماً، وأب لسبعة أطفال ) خلال حديثه لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) قال:" وضع حد للأنفاق التي تصل غزة بمدينة رفح المصرية يعني توقف دخله ودخل آلاف الأشخاص الذين يعتمدون على العمل في الأنفاق لكسب قوت يومهم(...) لقد نجحنا في اختراق السياج المصري ولكننا نخشى الآن أن يدعمه المصريون بالشحنات الكهربائية وأجهزة الاستشعار الزلزالية لكشفنا تحت الأرض، وهو ما سيجعل مهمتنا مستحيلة ".
وسيصل طول جدار الصلب الذي تبنيه مصر ما بين 10 و11 كلم بعمق 18 متراً تحت سطح الأرض بعد انتهائه، وسيتم بعدها تركيب الكاميرات وأجهزة الكشف على أن يخضع الجدار بعدها لفترة اختبار قبل أن يصبح جاهزاً للتشغيل.
وينتشر أكثر من ألف نفق بين قطاع غزة ومدينة رفح على الجانب المصري من الحدود، على عمق يتراوح بين 15 و35 متراً وطول يصل إلى كيلومتر واحد حسب تقديرات فلسطينية.
ويوضح أبو عنتر أن النفق الذي يملكه يوفر فرص عمل لـ 50 شخصاً "يعملون في ظروف قاسية للغاية ولا يعلمون في كل مرة هل سيخرجون من الأنفاق أحياءً. في مرات كثيرة انهارت الأرض... لا مفر من الموت في هذا النوع من العمل".
وحصدت عمليات القصف الإسرائيلي والانهيارات المتتالية للأنفاق وحوادث العمل القاتلة أرواح عشرات الشبان الباحثين عن فرصة عمل تحت الأرض ليرتفع عدد من قتلوا داخل الأنفاق إلى أكثر من (141) مواطنا والمصابين إلى (353) مصاباً منذ العام 2006، من بينهم (4) أطفال ومن بين القتلى (116) سقطوا خلال عامي 2008 -2009. كما سجل عام 2009 أعلى نسبة في عدد ضحايا الأنفاق، حيث بلغ عدد القتلى (64) قتيلاً وبلغ عدد المصابين (170) مصاباً، سقطوا في حوادث متفرقة خلال العام نفسه وفق إحصاءات مركز الميزان لحقوق الإنسان.
وكان "تجمع أهالي ضحايا الأنفاق" حمل الأمن المصري المسئولية الكاملة عن حياة المواطنين الغزيين مؤكدا أنه " يصر على تنفيذ حكم الإعدام بحق أبنائنا الذين لا حول لهم ولا قوة وضاق بهم الحال بعد إغلاق جميع المعابر وانقطاع أعمالهم كنتيجة مباشرة للحصار الخانق الذي يرزح تحته قطاع غزة" وفق بيان صادر عن التجمع.
الخطر القادم..!
منسق الإغاثة بالأمم المتحدة جون هولمز كان قد حذر من مشاكل كبيرة إذا ما نجحت الجهود الرامية لسد الأنفاق ، وقال في تصريحات له: "إذا تم سد هذه الأنفاق، مهما كانت غير مرغوبة ومهما كان أثرها على المجتمع في غزة وعلى اقتصاد قطاع غزة، فإن الوضع من دونها لا يمكن أن يستمر" مجددا دعوته لإسرائيل لإنهاء حصارها للأراضي الفلسطينية.
ويتساءل العامل الشاب محمود (33 عاما) من غزة :"أين المفر إذا أغلقت في وجوهنا الأنفاق بعدما أغلقت الحدود البرية..ماذا يتوقعون منا غير الانفجار".
"لا عمل و بطالة متفشية وخريجون كل عام بالمليان ..وحصار خانق وهذا ما يدفعنا للعمل في مهنة قاتلة تحت الأرض بلا مقومات حياة وتحفها المخاطر من كل جانب ورغم ذلك يطاردوننا لأنهم اليوم تذكروا أن لهم أمن قومي يتوجب حمايته" يقول محمود بنبرة غضب و استياء شديدين.
وفي تعقيبه على مخاطر سد الأنفاق يقول الوزير الظاظا:" سد الأنفاق سيؤدي إلى كارثة إنسانية كبيرة. فعندها سيضطر كل سكان قطاع غزة للاعتماد على المساعدات الغذائية التي تقدمها الأمم المتحدة" داعيا حكومتي مصر وإسرائيل إلى رفع الحصار المفروض على غزة والسماح للفلسطينيين "بالعمل فوق الأرض وليس تحتها وتمكينهم من العيش بكرامة".
لكن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، رأى في تقرير أصدره بهذا الخصوص أن الحكومة المصرية عازمة على المضي في بناء الجدر الفولاذي، على الرغم من الاعتراضات الواسعة داخلياً وخارجياً؛ وعلى الرغم مما يسببه ذلك من تفاقم لمعاناة أكثر من مليون ونصف فلسطيني محاصرين في قطاع غزة.
وقال المركز :" يظهر أن الضغوط الأمريكية – الإسرائيلية تلعب دورها في بناء الجدار، غير أن انزعاج الحكومة المصرية من حكم "حماس" للقطاع، بما تمثله من حركية إسلامية وامتدادات إخوانية، وبإصرارها على نهج المقاومة، ورفضها حتى الآن التوقيع على ورقة المصالحة المصرية، يدفع القيادة المصرية إلى ممارسة مزيد من الضغط على حماس لإجبارها على التساوق مع الخط المصري، أو إفشالاً لتجربتها في القطاع".
ولعل من "تأثيراته العكسية تداعياته السلبية على صورة الحكومة المصرية مصرياً وفلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وفي الأوساط العالمية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية".
تداعيات بيئية..!
ولكن هل تتوقف تداعيات بناء الجدار الفولاذي عند النواحي السياسية و الأمنية و حتى الإنسانية ؟ الدكتور عبد الفتاح نظمي عبد ربه أستاذ العلوم البيئية المساعد بالجامعة الإسلامية يقول: " يزيد الطين بلة أن هذا الجدار الفولاذي سيكون مسنودا بأنبوب ضخم قادم من البحر الأبيض المتوسط إلى جهة الشرق يحمل مياها بحرية مالحة ليتم ضخها إلى باطن الأرض عبر أنابيب مثقبة و متفرعة على فترات منتظمة (30 – 40 مترا) من الأنبوب الرئيس القادم من البحر".
و " تهدف هذه المياه إلى عمل تصدعات و انهيارات للأنفاق الأرضية مما يعني تدميرها الكلي و القضاء عليها و الحيلولة دون حفر أنفاق فلسطينية جديدة و بالتالي تشديد الخناق على الفلسطينيين داخل قطاع غزة" وفق أستاذ العلوم البيئية.
وثمة مخاطر بيئية عدة يلخصها د.عبد ربه في إعاقة الانسياب المائي في الخزان الجوفي الساحلي (Coastal Aquifer) الذي يعتبر المصدر الوحيد للمياه المستعملة في الشرب و الري و الاستخدامات الأخرى في قطاع غزة ، وتداخل مياه البحر لمياه الخزان الجوفي موضحا أن عملية ضخ المياه المالحة القادمة من خلال الأنبوب البحري القادم من البحر الأبيض المتوسط في أعماق متباينة من الأرض ستجعل من التربة "نظاما مشبعا و رخوا يسهل من خلاله تدمير الأنفاق الحالية و منع حفر أنفاق جديدة في المستقبل".
وقال :" دخول كميات هائلة من المياه البحرية إلى الخزان الجوفي يعني إصدار شهادة وفاة حتمية له حيث ستزداد الملوحة إلى درجات مرتفعة تجعل من استخدام مياه الخزان الجوفي أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا".
وعدد مخاطر أخرى تتمثل في أن زيادة الأراضي الفلسطينية المتصحرة في قطاع غزة من شأنه أن يؤثر سلبيا على عناصر التنوع الحيوي إضافة إلى أن الجدار الفولاذي الذي قد يمنع بعض انتقال الحيوانات البرية الحافرة و أحيانا الزاحفة من سيناء إلى غزة و بالعكس، كما أن أعمال التشييد للجدار سيصحبها تدمير كبير للغطاء النباتي التنوع في المنطقة (بساتين اللوزيات و الفواكه) بما يؤثر سلبا على و أماكن تعشيش و تكاثر الطيور و الحيوانات البرية الأخرى.
ولعل تدمير الأنفاق جراء تشييد الجدار الفولاذي و أنبوبه البحري سيعمل على "خلخلة الأرض و انهيارها في المنطقة الحدودية مما سيتسبب في كوارث جمة تلحق بالسكان المجاورين و بيوتهم و بالمواطنين الذين يعملون في الأنفاق، كما أن اللجوء المتوقع لحفر أنفاق بأعماق سحيقة سيكون وبالا على الصحة العامة و البيئة الفلسطينية"حسب لأستاذ العلوم البيئية.
سيناريوهات ما بعد الأنفاقيبدو أن السيناريو المرجح حالياً هو سيناريو استمرار عملية البناء، و " ليس من المتوقع أن تتراجع الحكومة المصرية عن قرارها بناء الجدار الفولاذي، بل إن من المرجح أن تتواصل عمليات البناء وتتسارع في المرحلة المقبلة، وسيواصل النظام اللعب على "أوتار مصرية شعبوية" حساسة، وسيستمر في تكرار مقولات "السيادة" و"تحصين الأمن القومي" حسب تقرير المركز.أما التبعات المترتبة على هذه الخطوة فيرى مركز الزيتونة أنها تسير نحو أحد اتجاهين: إما الضغط على حركة "حماس" أو الضغط المضاد على مصر على اعتبار أن "القيادة المصرية ستصبح شريكاً "رسمياً" في حصار قطاع غزة، وستظل تواجه طاقة الغضب والانتقاد المتّقدة في مصر وفلسطين وخارجهما لدورها هذا".
ويطالب التقرير الحكومة المصرية بالإلغاء الفوري لبناء الجدار الفولاذي، وفتح معبر رفح وإنهاء الحصار و تفعيل التحركات القانونية ضد كافة أشكال الحصار للشعب الفلسطيني بما في ذلك الجدار الفولاذي.وفي ظل الخطر القادم إلى جانب الأخطار الملموسة المحدقة بالمواطنين الغزيين فإن البعض يتساءل : "هل يمكن أن تتطور الأمور لتصل ببعض الجمعيات الحقوقية لرفع قضية ضد الجدار الفولاذي وضد مصر أمام المحكمة الجنائية الدولية" كما يقول د. خالد الحروب المحاضر والباحث الفلسطيني في جامعة كامبردج.
ما بين وصفه بأنه "إساءة لسمعة مصر" و فزاعة "حماية الأمن القومي المصري " ونعته بأنه "جدار برلين عربي" يشارف العمل في بناء الجدار الفولاذي على الحدود المصرية الفلسطينية جنوب قطاع غزة على الانتهاء في ظل مخاوف من تأثيراته على الأنفاق الحدودية ومع وصول القضية إلى أروقة القضاء المصري.
ورغم أن العمل في بناء الجدار لم يتوقف خلال المدة السابقة و لم يعد يستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام إلا أن القضاء المصري أعاده إلى واجهة الأحداث بعد إثارة القضية في محافله رغم تأجيل النظر فيها أكثر من مرة حتى الآن.
وكان السفير المصري إبراهيم يسري تقدَّم بدعوى انضمَّ إليها 280 ناشطًا من كافة ألوان الطيف السياسي ، من بينهم 6 نشطاء أجانب وسياسيين ومفكرين ورموز وطنية مصرية؛ لوقف وإلغاء القرار الصادر بإنشاء "الجدار الفولاذي".
واستندت صحيفة الدعوى القضائية المقدمة ضد رئيس جمهورية مصر حسني مبارك إلى مخالفة بناء الجدار لمبادئ القانون الدولي الذي ينظِّم العلاقات الدولية وقت الحروب والنزاعات المسلحة وقواعد "لاهاي" 1907م، والتي تؤكد احترام قوانين وأعراف الحرب البرية، وتنظيم استخدام القوة، وحظر تدمير الممتلكات للأطراف المتنازعة.
كما أوردت الدعوى مخالفة الجدار لاتفاقية "جنيف" الرابعة، والتي تعني بالمدنيين وحمايتهم في حال الحرب، كما أنها توضِّح طبيعة الحكم في مناطق النزاع، والحفاظ على الحالة القانونية القائمة في المنطقة عند احتلالها، وحظر نقل سكان محليين خارج المنطقة قهريًّا، والحظر على إسكان مواطني الدولة في المنطقة المحتلة.
البرادعي:لا للجدار!
وانضم مؤخرا إلى قائمة المناهضين لإقامة الجدار الفولاذي الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قال في تصريحات له :"قضية الجدار الفولاذي باتت تمثل إساءة لسمعة مصر، خاصة أنه بات أشبه بالمشاركة في حصار غزة التي تعد أكبر سجن في العالم نتيجة الحصار المفروض عليها".
لكن البرادعي يطرح حلا طالما دعا إليه الفلسطينيون ويتلخص في" إغلاق الأنفاق الحدودية وفتح المعابر وإنشاء منطقة حرة في رفح يتسوق فيها الفلسطينيون، ثم يعودون إلى غزة مرة أخرى".
يشاركه ذات الرأي د.عبدالله الأشعل الخبير في القانون الدولي وقال:" بسبب وضع مصر كمنفذ وحيد على الجانب الآخر لغزة فقد رتب القانون الدولي عليها التزامات أقسى وهي ضرورة فتح معبر رفح وكافة منافذ الحدود الأخرى لإنقاذ غزة من مخطط الإبادة الإسرائيلي".وأضاف الخبير الأشعل :"إذا كان جدار برلين قد استهدف في إطار التفكير الساذج منع شرق ألمانيا عن التواصل مع غربها ولم ينتهك أياً من أحكام القانون الدولي الظاهرة، فإن جدار إسرائيل وجدار مصر يناقضان أحكام القانون الدولي ويعتبران كلاهما جريمة من جرائم النظام الدولي".مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أبدى مخاوف جمة من تداعيات إقامة الجدار وقال في تقرير له :"يدفع حاجز الصلب الذي شارفت مصر على الانتهاء من بنائه على طول حدودها مع غزة سكان القطاع نحو الحافة... فكيف يمكنهم البقاء على قيد الحياة في غياب التجارة الضخمة التي تتم عن طريق الأنفاق تحت الأرض؟".
أين المفر..!
ويعتمد قطاع غزة على الأنفاق في استيراد أكثر من 80 بالمائة وفق تقديرات البنك الدولي كما أنها تشغل أيد عاملة قدرها زياد الظاظا، وزير الاقتصاد في حكومة غزة بنحو عشرين ألف عامل قبل العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية العام 2008 حيث لازال نصف هذا العدد يعمل فيها الآن.
مدير أحد الأنفاق الذي كنى نفسه بأبي عنتر (45 عاماً، وأب لسبعة أطفال ) خلال حديثه لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) قال:" وضع حد للأنفاق التي تصل غزة بمدينة رفح المصرية يعني توقف دخله ودخل آلاف الأشخاص الذين يعتمدون على العمل في الأنفاق لكسب قوت يومهم(...) لقد نجحنا في اختراق السياج المصري ولكننا نخشى الآن أن يدعمه المصريون بالشحنات الكهربائية وأجهزة الاستشعار الزلزالية لكشفنا تحت الأرض، وهو ما سيجعل مهمتنا مستحيلة ".
وسيصل طول جدار الصلب الذي تبنيه مصر ما بين 10 و11 كلم بعمق 18 متراً تحت سطح الأرض بعد انتهائه، وسيتم بعدها تركيب الكاميرات وأجهزة الكشف على أن يخضع الجدار بعدها لفترة اختبار قبل أن يصبح جاهزاً للتشغيل.
وينتشر أكثر من ألف نفق بين قطاع غزة ومدينة رفح على الجانب المصري من الحدود، على عمق يتراوح بين 15 و35 متراً وطول يصل إلى كيلومتر واحد حسب تقديرات فلسطينية.
ويوضح أبو عنتر أن النفق الذي يملكه يوفر فرص عمل لـ 50 شخصاً "يعملون في ظروف قاسية للغاية ولا يعلمون في كل مرة هل سيخرجون من الأنفاق أحياءً. في مرات كثيرة انهارت الأرض... لا مفر من الموت في هذا النوع من العمل".
وحصدت عمليات القصف الإسرائيلي والانهيارات المتتالية للأنفاق وحوادث العمل القاتلة أرواح عشرات الشبان الباحثين عن فرصة عمل تحت الأرض ليرتفع عدد من قتلوا داخل الأنفاق إلى أكثر من (141) مواطنا والمصابين إلى (353) مصاباً منذ العام 2006، من بينهم (4) أطفال ومن بين القتلى (116) سقطوا خلال عامي 2008 -2009. كما سجل عام 2009 أعلى نسبة في عدد ضحايا الأنفاق، حيث بلغ عدد القتلى (64) قتيلاً وبلغ عدد المصابين (170) مصاباً، سقطوا في حوادث متفرقة خلال العام نفسه وفق إحصاءات مركز الميزان لحقوق الإنسان.
وكان "تجمع أهالي ضحايا الأنفاق" حمل الأمن المصري المسئولية الكاملة عن حياة المواطنين الغزيين مؤكدا أنه " يصر على تنفيذ حكم الإعدام بحق أبنائنا الذين لا حول لهم ولا قوة وضاق بهم الحال بعد إغلاق جميع المعابر وانقطاع أعمالهم كنتيجة مباشرة للحصار الخانق الذي يرزح تحته قطاع غزة" وفق بيان صادر عن التجمع.
الخطر القادم..!
منسق الإغاثة بالأمم المتحدة جون هولمز كان قد حذر من مشاكل كبيرة إذا ما نجحت الجهود الرامية لسد الأنفاق ، وقال في تصريحات له: "إذا تم سد هذه الأنفاق، مهما كانت غير مرغوبة ومهما كان أثرها على المجتمع في غزة وعلى اقتصاد قطاع غزة، فإن الوضع من دونها لا يمكن أن يستمر" مجددا دعوته لإسرائيل لإنهاء حصارها للأراضي الفلسطينية.
ويتساءل العامل الشاب محمود (33 عاما) من غزة :"أين المفر إذا أغلقت في وجوهنا الأنفاق بعدما أغلقت الحدود البرية..ماذا يتوقعون منا غير الانفجار".
"لا عمل و بطالة متفشية وخريجون كل عام بالمليان ..وحصار خانق وهذا ما يدفعنا للعمل في مهنة قاتلة تحت الأرض بلا مقومات حياة وتحفها المخاطر من كل جانب ورغم ذلك يطاردوننا لأنهم اليوم تذكروا أن لهم أمن قومي يتوجب حمايته" يقول محمود بنبرة غضب و استياء شديدين.
وفي تعقيبه على مخاطر سد الأنفاق يقول الوزير الظاظا:" سد الأنفاق سيؤدي إلى كارثة إنسانية كبيرة. فعندها سيضطر كل سكان قطاع غزة للاعتماد على المساعدات الغذائية التي تقدمها الأمم المتحدة" داعيا حكومتي مصر وإسرائيل إلى رفع الحصار المفروض على غزة والسماح للفلسطينيين "بالعمل فوق الأرض وليس تحتها وتمكينهم من العيش بكرامة".
لكن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، رأى في تقرير أصدره بهذا الخصوص أن الحكومة المصرية عازمة على المضي في بناء الجدر الفولاذي، على الرغم من الاعتراضات الواسعة داخلياً وخارجياً؛ وعلى الرغم مما يسببه ذلك من تفاقم لمعاناة أكثر من مليون ونصف فلسطيني محاصرين في قطاع غزة.
وقال المركز :" يظهر أن الضغوط الأمريكية – الإسرائيلية تلعب دورها في بناء الجدار، غير أن انزعاج الحكومة المصرية من حكم "حماس" للقطاع، بما تمثله من حركية إسلامية وامتدادات إخوانية، وبإصرارها على نهج المقاومة، ورفضها حتى الآن التوقيع على ورقة المصالحة المصرية، يدفع القيادة المصرية إلى ممارسة مزيد من الضغط على حماس لإجبارها على التساوق مع الخط المصري، أو إفشالاً لتجربتها في القطاع".
ولعل من "تأثيراته العكسية تداعياته السلبية على صورة الحكومة المصرية مصرياً وفلسطينياً وعربياً وإسلامياً، وفي الأوساط العالمية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية".
تداعيات بيئية..!
ولكن هل تتوقف تداعيات بناء الجدار الفولاذي عند النواحي السياسية و الأمنية و حتى الإنسانية ؟ الدكتور عبد الفتاح نظمي عبد ربه أستاذ العلوم البيئية المساعد بالجامعة الإسلامية يقول: " يزيد الطين بلة أن هذا الجدار الفولاذي سيكون مسنودا بأنبوب ضخم قادم من البحر الأبيض المتوسط إلى جهة الشرق يحمل مياها بحرية مالحة ليتم ضخها إلى باطن الأرض عبر أنابيب مثقبة و متفرعة على فترات منتظمة (30 – 40 مترا) من الأنبوب الرئيس القادم من البحر".
و " تهدف هذه المياه إلى عمل تصدعات و انهيارات للأنفاق الأرضية مما يعني تدميرها الكلي و القضاء عليها و الحيلولة دون حفر أنفاق فلسطينية جديدة و بالتالي تشديد الخناق على الفلسطينيين داخل قطاع غزة" وفق أستاذ العلوم البيئية.
وثمة مخاطر بيئية عدة يلخصها د.عبد ربه في إعاقة الانسياب المائي في الخزان الجوفي الساحلي (Coastal Aquifer) الذي يعتبر المصدر الوحيد للمياه المستعملة في الشرب و الري و الاستخدامات الأخرى في قطاع غزة ، وتداخل مياه البحر لمياه الخزان الجوفي موضحا أن عملية ضخ المياه المالحة القادمة من خلال الأنبوب البحري القادم من البحر الأبيض المتوسط في أعماق متباينة من الأرض ستجعل من التربة "نظاما مشبعا و رخوا يسهل من خلاله تدمير الأنفاق الحالية و منع حفر أنفاق جديدة في المستقبل".
وقال :" دخول كميات هائلة من المياه البحرية إلى الخزان الجوفي يعني إصدار شهادة وفاة حتمية له حيث ستزداد الملوحة إلى درجات مرتفعة تجعل من استخدام مياه الخزان الجوفي أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا".
وعدد مخاطر أخرى تتمثل في أن زيادة الأراضي الفلسطينية المتصحرة في قطاع غزة من شأنه أن يؤثر سلبيا على عناصر التنوع الحيوي إضافة إلى أن الجدار الفولاذي الذي قد يمنع بعض انتقال الحيوانات البرية الحافرة و أحيانا الزاحفة من سيناء إلى غزة و بالعكس، كما أن أعمال التشييد للجدار سيصحبها تدمير كبير للغطاء النباتي التنوع في المنطقة (بساتين اللوزيات و الفواكه) بما يؤثر سلبا على و أماكن تعشيش و تكاثر الطيور و الحيوانات البرية الأخرى.
ولعل تدمير الأنفاق جراء تشييد الجدار الفولاذي و أنبوبه البحري سيعمل على "خلخلة الأرض و انهيارها في المنطقة الحدودية مما سيتسبب في كوارث جمة تلحق بالسكان المجاورين و بيوتهم و بالمواطنين الذين يعملون في الأنفاق، كما أن اللجوء المتوقع لحفر أنفاق بأعماق سحيقة سيكون وبالا على الصحة العامة و البيئة الفلسطينية"حسب لأستاذ العلوم البيئية.
سيناريوهات ما بعد الأنفاقيبدو أن السيناريو المرجح حالياً هو سيناريو استمرار عملية البناء، و " ليس من المتوقع أن تتراجع الحكومة المصرية عن قرارها بناء الجدار الفولاذي، بل إن من المرجح أن تتواصل عمليات البناء وتتسارع في المرحلة المقبلة، وسيواصل النظام اللعب على "أوتار مصرية شعبوية" حساسة، وسيستمر في تكرار مقولات "السيادة" و"تحصين الأمن القومي" حسب تقرير المركز.أما التبعات المترتبة على هذه الخطوة فيرى مركز الزيتونة أنها تسير نحو أحد اتجاهين: إما الضغط على حركة "حماس" أو الضغط المضاد على مصر على اعتبار أن "القيادة المصرية ستصبح شريكاً "رسمياً" في حصار قطاع غزة، وستظل تواجه طاقة الغضب والانتقاد المتّقدة في مصر وفلسطين وخارجهما لدورها هذا".
ويطالب التقرير الحكومة المصرية بالإلغاء الفوري لبناء الجدار الفولاذي، وفتح معبر رفح وإنهاء الحصار و تفعيل التحركات القانونية ضد كافة أشكال الحصار للشعب الفلسطيني بما في ذلك الجدار الفولاذي.وفي ظل الخطر القادم إلى جانب الأخطار الملموسة المحدقة بالمواطنين الغزيين فإن البعض يتساءل : "هل يمكن أن تتطور الأمور لتصل ببعض الجمعيات الحقوقية لرفع قضية ضد الجدار الفولاذي وضد مصر أمام المحكمة الجنائية الدولية" كما يقول د. خالد الحروب المحاضر والباحث الفلسطيني في جامعة كامبردج.
تعليقات
إرسال تعليق