غزة – محسن الإفرنجي:
تغيرات دراماتيكية وديموغرافية تشهدها القضية الفلسطينية بعد (62) عاما من عمر النكبة منذ العام 1948 غير أن قاسما مشتركا لا زال يجمع حوله الفلسطينيين في الوطن و الشتات وهو التمسك بالحقوق المشروعة وعلى رأسها حق العودة.
ورغم مأساوية الذكرى التي تحل بالفلسطينيين و تذكرهم بتهجير مئات الآلاف منهم " قسرا " عن أراضيهم إلا أن حلم العودة إلى تلك الديار لا زال ماثلا وحيا في أذهان الأجيال المتعاقبة ليفشلوا بذلك مقولة طالما رددها قادة الاحتلال وهي أن "الكبار يموتون والصغار ينسون" .
محطات عدة مرت بالفلسطينيين وسيناريوهات سياسية و أمنية واجتماعية جعلت القضية الفلسطينية تمر بأخطر منعطف في تاريخها خاصة في ظل ذروة الاستكبار الإسرائيلي و الضعف العربي و الانحياز الدولي إضافة إلى الانقسام الفلسطيني الداخلي .
لكن رغم عمر النكبة الممتد ثمة حقائق تخشاها إسرائيل وهي التغيرات الديموغرافية حيث كشف الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين في العالم تضاعف نحو ثماني مرات منذ مجازر نكبة 1948، وبلغ مع نهاية العام 2009 حوالي 10.9 مليون نسمة ، منهم أربعة ملايين نسمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، و 1.4 مليون نسمة في أراضي 1948 والباقي في الشتات.
وكانت أحداث النكبة وما تلاها من تهجير أدى إلى تشريد نحو 800 ألف من قراهم ومدنهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة فيما أظهرت بيانات الإحصاء الفلسطيني أن الإسرائيليين قد سيطروا خلال مرحلة النكبة على 774 قرية ومدينة، و دمروا 531 قرية ومدينة فلسطينية، كما اقترفت قوات الاحتلال أكثر من 70 مذبحة ومجزرة بحق الفلسطينيين أسفرت عن استشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني خلال فترة النكبة فقط.
روايات المهجرين قسرا..!
تأتي ذكرى النكبة لتنكأ من جديد جراح اللاجئين المشردين سواء الذين هجروا عن أراضيهم في العام 1948 أو الذين دمر الاحتلال منازلهم وتركهم بلا مأوى خلال العدوان على غزة نهاية العام 2008.
حكايات وروايات اللاجئين لا زال صداها مسموعا وتصدع بقوة الإرادة التي لا تعرف سوى كلمة واحدة "العودة" إلى الأراضي و المنازل التي هجروا منها لا إلى أراض يخطط البعض لتوطينهم فيها في محاولة لإنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين ولا ترفع غير "المفتاح" الذي يمثل الذاكرة النابضة لتلك العودة.
ولا تكاد تجد عجوزا فلسطينيا إلا ويمتلك مفتاح بيته في يافا أو السبع أو صفد أو كل القرى التي أبادتها إسرائيل عن الوجود وحاولت طمس معالمها المحفورة في ذاكرة الفلسطينيين وخاصة اللاجئين منهم إضافة إلى امتلاكهم شهادات ملكية الأراضي وبعض الأدوات التراثية المستخدمة في الحياة القديمة.
المهجر أحمد البطراوي الذي ينحدر من من قرية أسدود ويقطن حاليا مخيم دير البلح وسط قطاع غزة يقول في روايته عما أصابه: "بعدما هاجمتنا القوات الإسرائيلية خرجنا من الجهة الجنوبية جهة المجدل ، ولم نأخذ معنا إلا الأشياء البسيطة ( لحاف و بطانية و فرشة ) وضعناها جميعها على دابة كنا نأمل بالعودة وكنا نقول كلها بضعة أيام ونرجع مرة ثانية للبلد ،وذلك بعد أن تهجم الدول العربية ويهزموا اليهود ونعود لأرضنا وبلدنا ".
وأضاف اللاجيء المسن البطراوي في روايته لمركز التاريخ الشفوي بالجامعة الإسلامية بغزة: "هاجرنا مشيا على الأقدام و كان معنا كبار السن لا يستطيعون المشي طوال الطريق وكنا متعبين جدا كنت أحمل والدتي المرهقة على ظهري تارة وأريح ظهري تارة أخرى والجميع حالتهم صعبة للغاية" .
" سرنا جميعنا تجاه غزة وكان الوقت آنذاك في فصل الصيف وصلنا إلى دير البلح لأنه كنا نعرف بعض الناس هناك والدار التي أسكن فيها من سنة 1951م وكانت المعاناة كبيرة لكن بعض الناس أخذوا معهم القليل من القمح والشعير ليعجنوه ويأكلوا وكنا كلما نصادف بلدا في الطريق نشرب من عندهم ثم نكمل المسير على الأقدام" يتابع حديثه .
ومن أجل الحصول على بعض المواد التموينية " كنا نتسلل إلى أسدود ونأتي بالغلة مدة ثلاثين يوما وكانت القرية مدمرة بالكامل وجميع الأراضي مجرفة" .
ورغم بعد المسافات وصعوبة الأوضاع لا زال أملا يراود الحاج البطراوي بالعودة إلى قريته ويقول بكل ثقة و إصرار :"سأعود بإذن الله مهما طال الزمن".
لا لم نبع أرضنا..!
وماذا يقول المهجر موسى عطا الله موسى من قرية السوافير الغربية : "عندما بدأ الهجوم على قريتنا استخدم اليهود المدافع والصواريخ والرشاشات التي حصلوا عليها من الإنجليز في حين لم يكن لدينا سوى عدد قليل من الأسلحة حوالي 15 بندقية كنا نبيع ذهب نسائنا لنشتري الأسلحة (...) لكنهم وجدوا مقاومة عنيفة فتراجعوا" .
وأثناء الهجوم على قريتهم لم يستطيعوا اعتقال أحد بسبب وجود مقاومة شديدة ضدهم لكن بسبب محاصرتهم ومهاجمتهم من جهات القرية الثلاث تم إخراجهم من الجهة الجنوبية وبعدها أقدم جنود الاحتلال على تدمير المنازل وتعذيب المواطنين.
" كان اليهود يستخدمون مكبرات الصوت مهددين ويقولون "عليكم الخروج من القرية وإلا سوف تجدوا نفس مصير القرى الأخرى" ، لكن لم نخف من ندائهم ولم نخرج في البداية وكنا نشجع النساء والأطفال على البقاء " .
لكن شدة المعاناة وشراسة الهجوم الإسرائيلي ضدهم اضطرتهم لمغادرة القرية قسرا خاصة بعد أن استخدموا في قصف القرية الصواريخ وقذائف الهاون والمدفعيات وعمدوا إلى تدمير المنازل وإحراقها فيما كانت الأسلحة المقابلة المتوفرة "غير كافية وفاسدة وغير صالحة للاستخدام".
" لقد سرنا على الأقدام من قريتنا ثم اتجهنا إلى قرية الفالوجة ومنها إلى كرتيا ثم إلى بربرا وهربيا وصولا إلى غزة وكنا نعاني من نقص الطعام والشراب ، وانتشرت الأمراض والوباء " والحديث للمهجر موسى.
و " بدأنا التفكير في العودة وتسلل الكثير منا إلى السوافير، لجلب الطعام والشراب والملابس والأموال وخلال ذلك استشهد إسماعيل الصعيدي ، ورجب نبهان ".
وبقي أمل العودة يداعب مخيلة الحاج موسى ويدغدغ مشاعره إذ يصف ذلك بقوله " أتمنى العودة لقريتي ، لأنها مسقط رأسي ، وفيها أرضي ووطني (...) نحن لم نبع أرضنا ولكن اليهود أجبرونا على تركها ، وسلبونا إياها" .
رواية أخرى تقدمها الحاجة بهية علي طشطاش في شهادتها للمجموعة "194" المهتمة بقضايا اللاجئين الفلسطينيين فتقول : "بعد تهجيرنا عدت إلى قريتي يبنة مرة واحدة, لكن لم أجد شجراً ولا حجراً, بل وجدت النار والهشيم, فبكيت بحرارة على البلاد وعدت إلى غزة لمخيم جباليا لأحصل على بعض الخيام التي أعطتها إيانا وكالة الغوث "الأونروا " لأعيش مع أهلي في المخيم".
لكن الحاجة بهية لا زالت تنتظر و تعد الأيام و الشهور على أمل ألا تحرم من هذا الحق الإنساني والطبيعي و القانوني .
العملاء..قصة قديمة جديدة!
أما المهجر من قرية سمسم عبد الرازق عبد الحافظ صالح والمقيم حاليا في مخيم جباليا شمال قطاع غزة فكانت له قصة مع العملاء يقول عنها :" جاء رجل من غزة وقال أريد أن أصنع ألغاما لدبابتين كانت تمران الساعة العاشرة تقريبا وتتوجهان إلى بيت حانون ، فذهبنا حوالي 50 شخصا ووضعنا الألغام بالقرب منهم حتى إذا مرت نفجرهما لكنهما لم تحضرا ، انتظرنا أول يوم وثاني يوم وثالث يوم ولم تحضرا ، فأيقنا أن هناك عملاء ، فنزعنا الألغام وانسحبنا ، وإذا بنا نفاجئ بأن الدبابات وصلت ، فذهبنا مرة أخرى ووضعنا الألغام فعندها لم تحضر الدبابات".
ويتابع "غير مكان الألغام وكنا حوالي 20 شخصا ، ووضعناها في بيارة على بعد 1.5 كيلو من المكان الأصلي، ومساء جاءت الدبابات فانفجرت الألغام وأطلقنا النار على الدبابات فهرب منها شخص واحد وقتل الباقي داخلها لكننا لم نستطع أن نصل إليها بسبب الخوف" غير أن تلك المجموعة تفاجأت برد فعل الجيش المصري على العملية حيث رفضها بحجة " وجود هدنة مع اليهود" ، فرد على القائد المصري "الهدنة بينكم ، لكن إطلاق القذائف علينا ، فأخذ مني سلاحي وقال لي : اذهب واحضر القذائف التي لم تنفجر ".
وبعدما هجروا عن أرضهم كانوا يعودون فمنهم من عاد ليأخذ أملاكه التي تركها ، لكن اليهود كانت تضع الألغام في طريق العودة حتى قتلوا حوالي 20 شخصا منهم أحمد المجدلاوي وأخيه عبد الكريم المجدلاوي ، وعطا الله بدران ، وخضر أبو سعدة ، ومحمد سليمان صالح ، وكان هناك شخص يدعى شعبان عبد الهادي عاد للقرية ليأخذ ممتلكاته فقتله اليهود ، وقاموا بتلغيمه ، ثم نادوا على إخوانه وأبناء عمومته لأخذ جثته فعندما ذهب أربعة من عائلته لإحضار جثته انفجر فيهم اللغم فاستشهد خمسة بدلا من واحد " .
لكن قسوة المشاهد التي يستذكرها بكل قوة لا تدفع اللاجيء إلا إلى مزيد من الإصرار على العودة إذا يقول :" أقسم أنني لم ولن أنسى قريتي وبلدي أبدا ، فهي في مخليتي دائما ، أنها بلدي وأتمنى العودة إليها" .
باقون ..ما بقي الزعتر و الزيتون..!
رغم "سوداوية " الصورة السياسية التي تلف الآفاق اليوم و تحاصر الفلسطينيين خاصة اللاجئين منهم في بقاع العالم المختلفة و تحاك ضد قضيتهم المؤامرات و تعد مخططات التصفية إلا أن المؤرخ والباحث الفلسطيني د.سلمان أبو ستة يرى أن النكبة " ليست حادثة مرور وقعت عام 1948 وانتهت، فهي ما زالت مستمرة إلى اليوم".
وقال د.أبو ستة في مقابلة سابقة مع "الجزيرة نت" :" إن إسرائيل سعت وما زالت تسعى لطمس التاريخ الفلسطيني، وتمارس الإبادة والعنصرية بحق الفلسطينيين" موضحا أن قضية اللاجئين وحق العودة صلب الصراع اليوم مع الإسرائيليين وهو ما يتفق معه فيه د.صائب عريقات رئيس دائرة شئون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية بقوله:" النكبة لا تزال مستمرة. لذا، فإن التوصل إلى حلّ يستند إلى القرار 194 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين يعتبر ضرورةً".
لكن الباحث في قضية اللاجئين د.أبو ستة يرى بضرورة " فتح الجبهة القانونية في المعركة مع إسرائيل عبر متابعة زعمائها أمام المحاكم الدولية بتهم جرائم حرب وجرائم العنصرية ".
وأضاف :" الوضع الآن سيئ جدا من الناحية الرسمية، فالذين يتحدثون باسمنا يفسرون حق العودة تفسيرا مرفوضا يفرغه من محتواه، كما أن الدول العربية نفضت يدها من قضية فلسطين، وتضغط على الفلسطينيين ليقبلوا بما يعرض عليهم، وهذا خطأ شديد وقع فيه القادة العرب و المفاوض الفلسطيني".
وهنا يبرز الخلاف الفلسطيني الفلسطيني حول الموقف من المفاوضات و ما تشكله من خطر على قضية اللاجئين وفي هذا الإطار حذر المستشار السياسي لرئيس الحكومة الفلسطينية بغزة يوسف رزقة من "خطورة المرحلة التي تواجه القضية الفلسطينية نتيجة استعداد المفاوض الفلسطيني لتقديم التنازلات بما يتعلق بقضايا الحل النهائي من خلال الاحتكام للرأي الأمريكي".
ومن أبرز الصمود الفلسطيني رغم سنوات النكبة الطوال قصة اللاجئين في أراضي العام 1948 الذين يقول عنهم نائب رئيس الحركة الإسلامية الشمالية الشيخ كمال خطيب : " إن الشعب الفلسطيني يرفض التوطين, وإن فلسطينيي الداخل لن يرحلوا وإن كانت إسرائيل تعد العدة لحرب وشيكة".
وأضاف الشيخ الخطيب : "عودة اللاجئين الفلسطينيين قريبة ولن تكون إلى الضفة الغربية وغزة, بل إلى عكا وطبريا وحيفا واللد والرملة وكافة الأوطان التي شردوا منها" مشيرا إلى استشراء الفساد والانحلال بنسبة 52% في إسرائيل بعدما كانت أقل من 1%، "فالدولة التي صورت نفسها على أنها لا تقهر تعيش اليوم مرحلة مختلفة".
وليس بعيدا عن تلك الخلافات السياسية لكن بلغة الأرقام فإن " الفلسطينيين كانوا قبل النكبة يملكون 96 في المئة من فلسطين التاريخية فيما يملكون اليوم 4 في المئة فقط من كل مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27 ألف كلم مربع» وفق رئيس دائرة الخرائط في مؤسسة الدراسات العربية في مدينة القدس المحتلة خليل تفكجي.
وقال تفكجي في تصريحات له:" إسرائيل تسيطر على الضفة والقدس بالكامل ولا يملك الفلسطينيون سوى مساحات محدودة يمتدون عليها فيما هناك 160 مستوطنة يقطن فيها نصف مليون مستوطن، تسيطر مع الجدار الذي تبنيه إسرائيل على أكثر من 85 في المئة من مساحة الضفة ".
وأضاف : «ينتقل الوضع يوميا من سيء إلى أسوأ، ولا نعلم إن كنا سنبقى داخل بقايا فلسطين، وربما نكبتنا القادمة هي البحث عن مكان خارج بلادنا للعيش فيه».
لاجئون في الوطن وداخل الوطن بعد إبعاد مواطنين من مكان سكناهم إلى مكان آخر داخل وطنهم ولاجئون في المنافي و الشتات و على الحدود و قرب المعابر وفي الخيام و في السجون ..جميعهم يرددون كلمة واحدة "العودة" لأن الأرض تطلب أهلها والوطن يحيا بأبنائه لا بثرواته المادية و الطبيعية و غيرها...وأي شكل للنكبة في العام القادم كان لن يتجاوز هذا الحق لأن "الحقوق لا تسقط بالتقادم ولا بتنازل البعض عنها ولأن الكبار والصغار يتناقلون مفاتيح العودة و يتوارثون التمسك بها جيلا بعد جيل...فهل سنشهد انتفاضة أوسع بمواصفات جديدة تتلاءم مع المستجدات السياسية والمعادلات الدولية و الإقليمية ضد النكبة أم خلافا أعمق يرسخ النكبة أكثر فأكثر ؟؟!
تعليقات
إرسال تعليق