غزة – محسن الإفرنجي:
لم تكن متضامنة عادية لذا لم تمر ذكراها منذ سبع سنين خلت إلا ويحيي الفلسطينيون الذين عاشوا معها و أحبوها ذكراها خاصة بعد أن خاضت معهم مواقف عصيبة و أحداثا دامية اختلط على إثرها دمها البريء بتراب وطنهم المفدى..فمن هي تلك المتضامنة؟ وما قصتها و من الذي قتلها؟
راشيل ألين كوري (24 عاماً ) من سكان مقاطعة أوليمبا بولاية واشنطن الأمريكية آثرت المشاركة في حركة التضامن الدولية رغم صغر سنها حيث وصلت إلى غزة في أواخر شهر شباط من العام 2003 لتعلن تضامنها مع قضية اعتقدت أنها "قضية ضمير عالمي يجب أن يتحرك في مواجهة قوى الشر والهيمنة".
بدأت راشيل وهي عضو في حركة التضامن الدولي ISM تتلمس معاناة المواطنين الذين حرمهم الاحتلال أبسط حقوقهم الآدمية خاصة عندما توجهت إلى رفح جنوب قطاع غزة وبدأت تشاهد بأم عينها ما يتعرض له المواطنون من انتهاكات يومية أقل ما توصف بـ "جرائم حرب".
وأمام محكمة صورية أعدها مجموعة من أطفال البرلمان الصغير في رفح لمحاكمة شارون على جرائمه وقفت المتضامنة راشيل بكل جرأة لتوجه اتهاماتها مباشرة إلى حكومتي أمريكا و إسرائيل أثناء شهادتها لضلوعهما مباشرة في قتل و إرهاب الفلسطينيين و تدمير ممتلكاتهم بدون أي مبرر.
في تلك الفترة كانت قوات الاحتلال تنفذ مخططا لتدمير معظم بيوت المواطنين المدنيين على الشريط الحدودي مع مصر حيث أقدمت قوات الاحتلال على هدم ما يقارب 600 منزل في تلك المنطقة وشردت مئات الأسر..ومن وسط مشاهد الدمار بدأت حكايتها ومهمتها التضامنية.
عثرت على بعض الكتابات للناشطة راشيل كورى في أحد المواقع الإلكترونية عبارة عن يوميات كتبتها في العام 1999، أى قبل أربع سنوات من قتلها بواسطة الجرافة الإسرائيلية وهى تحاول منع هدم منازل فلسطينية حيث كتبت تقول في إحداها: "حلمت بأني أسقط، أسقط إلى حيث حتفي من شيء أغبر وأملس ومتفتت كالصخور الجرفية فى ولاية يوتا...لكنى واصلت التشبث بقوة وكلما تحطم موطئ قدم أو جزء من الصخرة مددت يدى وأنا أهوى وأمسكت بغيرها. ولم يكن لدى وقت للتفكير فى أى شيء وتصرفت كما لو كنت ألعب بجهاز الفيديو. سمعت صوتا يقول 'لا يمكن أن أموت' تردد مرارا في أذني".
ليلة الإعدام..!
تصدت راشيل و زملاؤها للدبابات والجرافات الإسرائيلية وأعاقوا حركتها مرارا و منعوها من تنفيذ "مجزرة هدم المنازل" ، لكن ردة فعل الاحتلال كانت بمستوى "جرائم الحرب"..فكيف رد الجنود على مواقف راشيل البطولية؟
مساء الأحد السادس عشر من شهر آذار من العام 2003 كانت راشيل وزملاؤها البالغ عددهم سبعة من ناشطي الحركة الدولية للتضامن وهم أربعة أمريكيين وثلاث بريطانيين يتظاهرون أمام أحد المنازل التابعة لأسرة فلسطينية مهددة بهدم منزلها، فتقدمت إحدى الجرافات باتجاه المنزل ووقفت راشيل ملوحة بشارة في يدها تتحدث إلى السائق بميكروفون.
"لن تمروا ولن نترككم تهدموا البيت..إنهم أبرياء " لكن صوت الجرافة التي تقدمت باتجاهها غطى على صوتها الذي ينبض دعما لأصحاب الحق وما كان من سائق الجرافة الإسرائيلي إلا أن غرس شفرة الجرافة في الأرض على بعد أمتار منها فسقطت راشيل أرضاً، ورفع السائق الشفرة وتقدم باتجاهها رغم استغاثة زملائها، ثم أنزل التراب والحجارة فوقها مما أدى إلى دفنها وهي حية دون أي رحمة، وأسرع زملائها إليها وأزالوا التراب عنها ... جسدها الضعيف لم يحتمل بعدما أصيبت بجروح وكسور بالغة في الرأس والظهر أدت إلى وفاتها في المستشفى بعدما نقلت إلى هناك من خلال سيارة إسعاف.
لا تغادرينا "راشيل"..!
"أليس" صديقة راشيل الأمريكية الأصل أيضا أرعبتها اللحظات التي دفن فيها جسد راشيل تحت التراب ولم تعد تراها، هرعت إليها تصرخ وأصبحت تزيل التراب والحجارة عنها واحتضنت راشيل ووضعت رأسها على صدرها، حاولت استخدام مهارات الإسعاف الأولية التي تعلمتها، لكن وضع راشيل كان صعباً للغاية.
وقالت أليس عن تلك اللحظات في تصريحات سابقة لها: "كانت منهكة .. تكلمت بصعوبة بأن ظهرها قد كسر وأنها غير قادرة على الحركة، حاولت أن أبقيها تتنفس وأتكلم معها، أخبرتها أننا نحبها ويجب أن تصمد ، بدأت غير قادرة على الكلام أو النفس، فقدت وعيها .. صرت أصرخ والجنود الإسرائيليون لم يقدموا أي مساعدة، لم أستطع أن أصدق أن راشيل قد ماتت ، لم أتوقع ذلك وتخليت أنه ممكن أن أكون أنا أو أحد زملائي قد حدث له ذلك".
Greg جريق الأمريكي الأصل وصف الحدث مسترجعاً شجاعة راشيل كيف تحدثت لسائق الجرافة، كيف تقدم باتجاهها ولم تتزحزح، كيف سقطت أرضاً ودفنت بالتراب.
يقول ""Greg : في اللحظة التي قفزت باتجاهها كانت تبدو في حالة صعبة إحدى شفتيها إنفصلت عن فمها وكانت تنزف وأذهلني الموقف، حاولت الحديث ولم تستطع، أخبرتها أننا نحبها ويجب أن تصمد وأنها سوف تكون بخير ولكنها بعد مدة قصيرة أصبحت غير قادرة على النطق وفقدت وعيها، كانت لحظات مؤلمة ، لم أصدق ما حدث".
شجاعة استثنائية
الأخصائي محمد مخيمر من برنامج غزة للصحة النفسية الذي احتضن المتضامنين قال بعد متابعته أوضاع زملاء راشيل: "كان وقع الصدمة شديداً على زملائها الذين علا صراخهم وعويلهم في المستشفى ، فمنهم من أنكر ولم يصدق ، ومنهم من انهار على الفور".
وأوضح مخيمر أن فريق التدخل في الأزمات وبالتنسيق مع فريق أطباء بلا حدود زار في حينها زملاء راشيل في بيت العزاء والتنسيق لجلسة تفريغ انفعالي ( Debriefing ) لمساعدتهم على اجتياز الأزمة والتخفيف من حدة معاناتهم النفسية.
وأخبرهم زملاء راشيل أنهم اتخذوا قراراً بأن يبقوا ولن يغادروا حيث برز إصرارهم في ذلك من خلال كلمات التحدي التي عبروا بها قائلين "لن نجعل الاحتلال يفوز ويحقق ما خطط له مسبقاً".
ووصف مدير العلاقات العامة في برنامج غزة للصحة النفسية مروان دياب موقف المغدورة راشيل بأنه "شجاعة استثنائية حيث كانت على استعداد للتضحية بروحها من أجل عدالة القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال".
وقال دياب:"إن برنامج غزة شريك مؤسسة إعادة الإعمار الأمريكيةThe Rebuilding Alliance" في مشروع حملة راشيل كوري لإعادة الإعمار في غزة نتوجه بالشكر لهذه المؤسسة على جهودهم التي بذلوها من أجل إعادة إعمار منزل عائلة نصر الله الذي هدمته قوات الاحتلال في رفح".
وأعرب عن أمله باستمرار حركة الإعمار والبناء لكل المنازل الفلسطينية التي هدمتها آلة الاحتلال الإسرائيلي لا سيما بعد العدوان الأخير على غزة و استمرار مخطط هدم منازل المواطنين المقدسيين وتهجيرهم خارج مدينتهم وأرضهم.
لكن شبكة المنظمات الأهلية أحيت ذكرى راشيل عبر مطالبتها باستمرار ملاحقة جنود الاحتلال الإسرائيلي "قتلة المتضامنة كوري" وغيرها الكثير من الضحايا الذين سقطوا جراء جرائم الحرب الإسرائيلية في ظل "حالة الصمت الدولي".
وقالت الشبكة في بيان لها: "إن جريمة الاحتلال بقتل الشهيدة كوري بدم بارد والتي وثقتها الكاميرات ووسائل الإعلام المختلفة وشهادات زملائها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك تعمد الاحتلال ارتكاب هذه الجريمة البشعة".
رحلت راشيل بجسدها لكن روح التضامن لم تمت وتجددت من خلال سفن كسر الحصار التي قدمت إلى غزة ووفود المتضامنين غير أن استثمار حركة المتضامنين لا زالت بحاجة إلى مزيد من الاستثمار الفلسطيني لتشكيل رأي عام دولي يسهم بفاعلية في كسر الحصار.
تعليقات
إرسال تعليق